الثورة – ثورة زينية:
كثيرٌ من الدمشقيين يتذكر أيام فيضان مياه نهر بردى، والأكثر هم الذين يتذكرون أيام “السيران” على ضفافه، لكن الأمس ليس كاليوم الذي جعل سكان أرقى مناطق العاصمة التي يمر نهر بردى منها يغلقون نوافذهم بسبب الروائح الكريهة الصادرة عنه، ولا يزال النهر الخالد ينتظر من ينعشه من جديد، ولا تزال معاناة نهر بردى مستمرة أمام صعوبة الوصول لحلول سريعة تعالج حالته المتردية التي باتت في حالة موت سريري نتيجة سياسة الإهمال التي امتدت لعقود طويلة.
وبعد أن كان رمزاً للجمال، تحيط به بساتين غوطتي دمشق، يتغنى به الشعراء، تحول على مدى السنين الماضية الى مجرى للصرف الصحي ينذر بكارثة بيئية وصحية مع تفاقم شديد للمشكلة هذا العام نتيجة شح الامطار، ويصعب على من يرى نهربردى بوضعه الحالي أن يتخيل أن هذا النهر الجاف كان يغرق مدينة دمشق لعقود خلت.
حلول عاجزة
باتت أسباب تلوث مياه نهر بردى معروفة، في حين تقف الحلول عاجزة أمام استمرار مسببات المشكلة، ولم تتعد تقييم الضرر الناتج، ما يهدد المنشآت السياحية المحيطة به بشكل واضح.
فالروائح الكريهة المنبعثة من سرير النهر باتت في الفترة الأخيرة منفرة لدرجة تضرر المنشآت السياحية المحيطة بمجرى النهر في مناطق الهامة ودمر والربوة خاصة، حيث شكا أصحاب تلك المنشآت من تراجع كبير لأعداد المرتادين للمقاهي والمطاعم المنتشرة على ضفتي مجرى النهر، إضافة لانتشار الحشرات بشكل غير مسبوق فوق مجرى النهر على الرغم من الجهود المستمرة من قبل ورشات الصيانة في محافظة دمشق، إضافة لجهود أهلية ومبادرات من أصحاب المنشآت ذاتها لتنظيف مجرى النهر، إلا أن تلك الجهود لا تزال غير مجدية في ظل استمرار تدفق الصرف الصحي في مجرى النهر وصولاً لقلب العاصمة دمشق.
مصادر في مديرية الصيانة بمحافظة دمشق بينت لـ”الثورة” أن تلوث مجرى النهر بمياه الصرف الصحي بات مسألة صعبة وغمرت ملامح النهر المياه السوداء التي باتت تطغى على المشهد الكلي لبردى، يضاف اليها ما ترميه المنشآت السياحية والفعاليات الأخرى الموجودة حول محيط النهر في مناطق دمر والربوة وشارع الثورة والزبلطاني من نفايات وقمامة من دون أدنى شعور بالمسؤولية في ظل غياب الرقابة والمحاسبة نتيجة تقاعس دوائر الخدمات بالدرجة الاولى عن متابعة التجاوزات في هذا الإطار، مضيفة إن الإمكانيات المتواضعة جداً لمديرية الصيانة من كوادر وآليات تحول هي الأخرى في متابعة تنفيذ عمليات تنظيف وتعزيل النهر من النفايات بالشكل المطلوب.
الفساد ابتلع 14 مليار ليرة
منذ ما ينوف عن سبع سنوات كان قد اتخذ قرار برفعِ الأذى عن نهر بردى بتكلفة ما يقارب الـ14 مليار ليرة من قبل الحكومة التي كانت تعمل تحت ظل النظام البائد، وكان هناك تجاهل متعمد لواقع النهر الذي يعتبر من الثالوث التكويني لمدينة دمشق وهذا الثالوث هو الغوطة وبردى وقاسيون.
وكان من المفترض أن يخصص مبلغ الـ14 ملياراً لمعالجة جذرية، ومشروع استراتيجي في محافظتي دمشق وريفها ينفذ خلال عامين، حيث كانت الفاتورة الصحية والبيئية التي يتم دفعها في كلا المحافظتين نتيجة تلوث نهر بردى كبيرة، إلا أنه مضى العامان وابتلع مشروع إحياء النهر مبلغ الـ14 ملياراً من دون أن تتحرك ذرة من تراب نهر بردى، وبعد 4 أعوام عادت الاجتماعات والندوات لتثير موضوع إحياء النهر ومعالجة الوضع البيئي لمحيطه، إلا أن ذلك بقي حبيس الأدراج وحبراً على ورق.
كما كان من المفترض أن يشمل المشروع مراحل تتضمن إنشاء محطتين للمعالجة، الأولى في جمرايا والثانية عند معمل الإسمنت في دمر، وذلك لرفع كل خطوط الصرف الصحي الممتدة إلى محور النهر، والثانية لتنفيذ محور الصرف الصحي من عين الخضرة حتى محور المحطة بطول 7700 متر، واستكمال تنفيذ محور الصرف الصحي من التكية حتى كفر العواميد بطول 3780 متراً، إضافة لإصلاح الخط المنسق في عين الخضرة والفيجة وطوله 11300 متر، وإلى صيانة منظومة المعالجة في قدسيا والهامة، ورفع مصبات الصرف الصحي في محور وادي المشاريع وجبل الرز وإصلاح محطة عدرا.
بلطوا النهر!
وترى الخبيرة البيئية ناديا زند الحديد أن تحسين الواقع البيئي لنهر بردى يحتاج إلى تكاتف وتنسيق بين الجهات الخاصة والعامة، فالنهر يحتاج لمحطات تنقية عديدة ورفع مصبات الصرف الصحي عنه بشكل كامل، موضحة أنه وعلى الرغم من كل الحملات المتعددة التي استهدفت نظافة مجرى النهر ورفع الاذى عنه فإن النهر لا يزال على حاله، ولا تزال رائحة مجاري الصرف الصحي طاغية على أماكن تحيط به، تبعد المارة عنه، بل يسارع البعض لتخطيه عند المرور قربه تفادياً للرائحة الكريهة المنبعثة منه.
وبينت الخبيرة البيئية أنه في تسعينيات القرن الماضي بدأ النهر يفقد تدريجياً ملامحه، حيث حول مجراه إلى منطقة عدرا لتنقية مياه الصرف الصحي بالنهر، وتم تبليط مجراه في منطقة المعرض الدولي القديم ما ساهم في الحد من تدفقه كما أن تبليط النهر منع تخزين المياه الجوفية في منطقة سرير النهر، إضافة لتحويل مجاري الصرف الصحي إليه في مناطق دمر وقدسيا.
النهر هو نظام بيئي بحد ذاته وجزء من نظام بيئي أكبر ولا يمكننا حماية نهر أو الحفاظ عليه ما لم يتم حماية النظام البيئي ككل والحفاظ عليه، وهذا يستدعي إعادة النظر في أنماط الحياة وفهمنا لمقومات التنمية.