الثورة – حسين روماني:
على عتبات بيت “فارحي” في دمشق القديمة، وبين حجارةٍ شهدت قروناً من الحكايا، كان اللقاء أشبه بتجمع ثقافيّ تناقش فيه باحثون ومتابعون للشأن الثقافي في محاولة لإعادة رسم ملامح ذاكرة ثقافيّة.
“الممارسات الثقافية والتحولات الفنية في سوريا” تحت هذا العنوان العريض نظمت مؤسسة “اتجاهات – ثقافة مستقلة” يوم الخميس في دورتها التاسعة “يوم البحث”.
اتجاهات ثقافة متجذّرة
“اتجاهات” خلقت في ذروة التحولات عام ٢٠١١، لتكون مظلّة للفنانين المستقلين والباحثين والكيانات الثقافية في المنطقة، تعمل عبر دعم المشاريع الفنية، وتفعيل البحث النقدي، وتوسيع أثر الفنون المجتمعية، خاصة في مناطق الأزمات والشتات السوري.
وقد أسهمت منذ انطلاقتها في دعم عشرات الفنانين والباحثين، وتنظيم مبادرات عابرة للحدود، كان آخرها استجابة ثقافية لزلزال شباط 2023 ضمن “مبادرة حياة”.
في الجلسة الأولى، استعرض الكاتب والصحفي هاني الطلفاح كيف قاومت المكتبات السورية نيران القصف والنسيان عبر الشاشة الكبيرة.
من مكتبة داريا السرية إلى مبادرات جنوب دمشق، كانت الكتب تُهرَّب كما تُهرَّب الأرواح، أما زويا قرموقة، فحملت الحضور في رحلة خزفية، من آثار طريق الحرير إلى صالات الفن المعاصر.
وقالت لنا: “الخزف هو طريقتي لتوثيق ما لم يُكتب، إنه صلصال الذاكرة السورية”.
طرحت ميرما الورع في الجلسة الثانية سردية دور السينما في دمشق، باعتبارها مرآةً لتحوّلات المدينة، أما ورقة شام العلبي وإياد أبو سمرة، فكانت عن شوارع تُضاء بهواتف المارة، ومدينة تصنع فضاءها الليلي رغم الظلام.
سلّطت الجلسة الثالثة الضوء على سرديات الحرب من زاوية فنية وإنسانية، قارنت فدوى العبود بين الروايات السورية واللبنانية لتبحث عن معنى الهويّة، فيما قدّمت ميّار مهنا قراءة لدخول النساء إلى عالم صناعة الأفلام بعد 2011، إذ كانت تُروى من زاوية جديدة، أنثوية، ذاتية وجريئة.
حوارات حرّة
المدير التنفيذي لاتجاهات السيد عبد الله الكفري في تصريحه لـ”الثورة” قال: “للمرة الأولى، نستطيع أن نجمع هذا العدد من الباحثين داخل سوريا وهذا ليس مجرد لقاء، بل لحظة إنتاج أسئلة حقيقية من داخل السياق السوري نفسه، ما يمنح هذه الأوراق البحثية قيمة مضاعفة، وفي بلد كسوريا، إنتاج المعرفة ليس رفاهاً، بل ضرورة.. نحتاج إلى الاستثمار في الثقافة والفنون، لأنها الضامن لمساحات التفكير الحر، ولأنها تُنتج نوعاً جديداً من المعرفة”.
وأضاف: “عادةً ما يُنتج البحث في بيئات مستقرة، لكننا هنا ننتج المعرفة في قلب الهشاشة، ما يتطلّب تجريباً وتعلّماً دائماً، نحن لا نقدم إجابات جاهزة، بل نفتح أطراً بحثية تُشجّع الباحث على طرح أسئلته الخاصة، هذه الدورة قدّمت أوراقاً عن السينما والمسرح والموسيقا، لكن أيضاً عن الفضاءات العامة كالحِرَف التقليدية، والمكتبات والهوية حتى الضوء كان له نصيب من هذه الأبحاث وكلها مجالات تحتاج لتوسيّع الدائرة”.
الصحفية زويا قرقومة حدثتنا عن مشاركتها ببحث الخزف السوري، فقالت: “كانت الجلسة ذات أهمية خاصة في هذه المرحلة التي نعيشها، نبحث عن التشافي والانطلاق من جديد، ما نحتاجه ليس فقط بناء الكتل الخرسانية، بل بناء يكمّل الموروث لنعيد إحياء ما ورثناه ونطوره كي يواكب اللحظة المعاصرة”.
وأضافت، “جوهر فكرتي هو تقاطع التراث المادي واللامادي، بين ما هو شفهي وما هو موثّق، مع ما هو معاصر وحيوي اليوم.. أن نصنع فنّاً من هذا التلاقي هو ما يمنح العمل صدقه وعمقه، كان اللقاء استثنائياً بالفعل، وأسعدني حجم التفاعل والأسئلة، والانتباه للتفاصيل الدقيقة، تلك التي تصنع الفرق بين التوثيق الحيّ والذاكرة الجامدة”.