أوضاع مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية تثير التساؤلات.. نقص بالموارد والأدوية وغياب تخصص “التمريض النفسي”
الثورة – ناديا سعود:
يقف مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية كآخر الحصون العلاجية المتخصصة في البلاد، في ظل واقع صحي يرزح تحت وطأة الحرب والإهمال، حاملاً على عاتقه عبء التصدي لتزايد الاضطرابات النفسية بشكل غير مسبوق، وانتشار الإدمان في أوساط المجتمع، ولاسيما بين فئاته الشابة، وسط بنية تحتية متآكلة، ونقص حاد في الكوادر الطبية المتخصصة، وميزانيات بالكاد تكفي لتأمين الحاجات الأساسية، يواصل المستشفى أداء دوره الحيوي بصمت.
ورغم ضآلة الدعم الحكومي، وضعف الاستجابة الرسمية، يحاول هذا المستشفى النهوض بفضل تفاني طاقمه الطبي والإداري، مدعوماً أحياناً بلفتات خجولة من بعض المنظمات الإنسانية، في بلد يعاني سكانه من آثار الحرب الطويلة والضغوط الاقتصادية المتفاقمة، يتحول ابن رشد إلى ملاذ أخير لمن تاه بهم الألم النفسي، وأعياهم صمت المجتمع عن معاناتهم.
اختصاصية الأمراض النفسية والعصبية الدكتورة ماسة المعري بينت في حديثها لـ”الثورة” أن مستشفى ابن رشد التابع لوزارة الصحة، يُعد المستشفى النفسي الوحيد في العاصمة، ومن بين ثلاثة فقط في سوريا إلى جانب مستشفى ابن سينا في ريف دمشق، وابن خلدون في حلب، كما يوجد قسم صغير للأمراض النفسية ضمن مستشفى المواساة”
وتشرح د. المعري أن المستشفى، الذي كان سابقاً مركزا لمعالجة الإدمان تحت اسم “المرصد الوطني للشباب”، تحوّل إلى مؤسسة تعالج جميع أنواع الاضطرابات النفسية، إضافة للإدمان، ويمثل اليوم مرجعاً أساسياً في هذا المجال، وقد شهد تطوراً ملحوظاً مؤخراً نتيجة انفتاح المنظمات الدولية والجهات المتطوعة على دعم القطاع الصحي، وساهمت “أطباء بلا حدود” في تجديد قسم الإقامة، وإنشاء حديقة وتأهيل البنية التحتية، كما تم التعاون مع منظمة SAMS لتأمين الأدوية، إضافة إلى دعم فردي وتطوعي من جهات أخرى مثل “حملة عبر الأطلسي.”
نقص البنية والموارد
رغم هذه التحسينات، فإن المستشفى لا يزال بحاجة ماسة للتوسعة، خصوصاً في قسم النساء الذي لم يُستكمل بعد، وعدد غرفه محدود جداً، وتقول المعري: “نطالب دوماً بإتمام هذا القسم، لكن حتى الآن لا توجد جهة قادرة على تغطية هذا المشروع”.
الأزمة الأكبر تكمن في نقص الكوادر التمريضية والتخصصية، في ظل غياب تخصص “التمريض النفسي” في سوريا، وانتفاء الحوافز المادية التي تُشجع على العمل في هذا المجال شديد الحساسية، وتؤكد المعري أن العديد من العاملين تعرضوا للإيذاء من قبل مرضى في نوبات لاوعي، وبعض الإصابات كانت دائمة، مقابل أجور لا تكافئ حجم المخاطر.
أما في ما يتعلق بالأدوية، فالوضع ليس أفضل حالاً.. “لدينا شح دائم بالأدوية، والعدد الكبير من المراجعين من كل المحافظات يستنزف الكميات بسرعة، رغم حصولنا على دعم من الصحة ومن منظمات خارجية”، تضيف المعري أن بعض الأدوية قد تكون الفاصل بين حياة منتجة وبين عزلة وانهيار للمريض، وأن توقفها نتيجة ارتفاع أسعارها يشكل خطراً حقيقياً.
الأكثرية تعاني بصمت
يعالج المستشفى يومياً قرابة 75 مريضاً في العيادات الخارجية- حسب الدكتورة المعري، وأكثر من ذلك في حالات الإقامة، تختلف الحالات بين اكتئاب، قلق، اضطرابات ما بعد الصدمة، الفصام، وثنائي القطب، أما مرضى القسم الداخلي فهم غالباً حالات شديدة مع محاولات انتحار أو خطر إيذاء للذات أو للآخرين.
وأوضحت أن الإدمان يبرز كواحد من أخطر الملفات التي يتعامل معها المستشفى، خاصة الاضطرابات النفسية الناتجة عن التعاطي، بعض الحالات يمكن متابعتها في المنزل بوصفات دورية، لكن الكثير منها تتطلب قبولاً داخلياً لعلاج أعراض الانسحاب الشديدة أو أنواع المواد الخطرة، بحسب المعري.
وأشارت إلى أن أغلب حالات الإدمان لا تأتي “صرفة”، بل تكون مشتبكة مع أمراض نفسية مثل الاكتئاب والقلق، إما كسبب للإدمان أو نتيجة له. وتقول: “الزهان أو الهوس الناتج عن المواد هو من أكثر الأمراض النفسية التي نراها بسبب التعاطي”.
وصمة تعيق العلاج
ترى د. المعري أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة ساهمت بزيادة الاضطرابات النفسية، من دون أن يعني ذلك أن كل من مرّ بتجربة صعبة مصاب بالضرورة. “هناك أشخاص مهيؤون جينياً وتركيبياً أكثر من غيرهم”، مضيفة: إن الاضطرابات قد لا تكون ظاهرة، لكنها موجودة وتؤثر في الحياة اليومية للناس بشكل عميق.
وتحذر من الوصمة الاجتماعية التي تمنع المرضى من طلب العلاج، وتجعل من الأهل خصماً أحياناً بدلاً من أن يكونوا داعمين. فالعلاج النفسي يحتاج إلى تكامل بين المريض، الأسرة، والبيئة المحيطة، وفق وصفها.
ولفتت إلى أن الإعلام يلعب دوراً حاسماً في كسر هذه الوصمة، وفي تصحيح المفاهيم المغلوطة حول المرض النفسي، وأهمية تقديم العلاج الصحيح في الوقت المناسب.
ومن النقاط المؤلمة التي تذكرها د. المعري هي غياب برامج إعادة التأهيل والدمج المجتمعي للمتعافين من الإدمان والاضطرابات النفسية، بسبب غياب التنسيق بين الوزارات المختلفة، إذ لا يمكن لمستشفى وحده أن يتحمل هذه المسؤولية المعقدة.
وتؤكد أنه لا يتم قبول المرضى المدمنين قسراً، إلا إذا رغبوا بالعلاج، لأن إجبار المدمن على العلاج غير مجدٍ غالباً، بل يدفعه للعودة للتعاطي بعد الخروج، ومع ذلك، في حال كان هناك مرافقة لاضطراب نفسي، يتم استقباله وتقديم العلاج اللازم.
في ختام حديثها، تؤكد الدكتورة المعري أن هناك إقبالاً كبيراً على العلاج النفسي في السنوات الأخيرة، ليس بفضل حملات التوعية بالدرجة الأولى، بل بسبب تفاقم الحاجة، مشيرة إلى أهمية دعم مستدام وشامل للقطاع النفسي.
وسلطت الضوء إلى الحاجة لتأهيل أفضل، لأدوية متوفرة دائماً، لمزيد من المستشفيات، ومراكز متخصصة بالإدمان، مضيفة: “الرسالة الأهم اليوم أن الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة، وقد تغيّر مصير إنسان كامل، وأسرته، ومجتمعه”.