الثورة – إيمان زرزور:
مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بسوريا خلال السنوات الأخيرة، لم يعد مشهد الخريج الجامعي الذي يعمل في مجال لا يمت بصلة لتخصصه أمراً نادراً أو استثنائياً، بل أصبح ظاهرة تتسع يوماً بعد آخر.
ففي الوقت الذي يدخل فيه الطالب الجامعة حاملاً أحلاماً كبيرة وأهدافاً مهنية محددة، يجد نفسه بعد التخرج أمام واقع مختلف تماماً، يُجبره على التنازل عن طموحاته مقابل أي فرصة عمل تؤمّن له الحد الأدنى من الدخل والمعيشة.
تُعزى هذه الظاهرة إلى عدة عوامل متشابكة، أبرزها “ضعف سوق العمل المحلي” وعجزه عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الخريجين في مختلف التخصصات، مع غياب التنسيق بين وزارة التعليم العالي واحتياجات سوق العمل، مما أدى إلى تخريج دفعات كبيرة من الطلاب دون أي طلب حقيقي عليهم.
كذلك من الأسباب “التدهور الاقتصادي العام” الذي دفع الكثير من الخريجين لقبول وظائف بعيدة عن اختصاصهم لمجرّد تأمين لقمة العيش، ونقص التدريب العملي والمهارات التطبيقية داخل الجامعات، ما يضعف من قدرة الخريجين على المنافسة في المجالات المتخصصة، علاوة عن “الهجرة الواسعة للكفاءات”، وغياب التوجيه المهني الفعّال لمن تبقّى في الداخل السوري.
لا يقتصر أثر الظاهرة على الخريجين فقط، بل يمتد ليشمل النسيج المهني والاقتصادي برمّته، ومن أبرز التداعيات “إحباط نفسي وفقدان الحافز”، نتيجة شعور الخريج أن سنوات دراسته كانت بلا ثمرة، وانخفاض القيمة العملية للشهادات الجامعية في نظر المجتمع وسوق العمل، وهدر للموارد التعليمية التي استثمرتها الدولة أو العائلات دون مردود فعلي، كذلك فوضى مهنية وتراجع في كفاءة الأداء العام، نتيجة غياب التخصصية في سوق العمل.
ما كان يُعدّ في السابق حالة فردية بات اليوم مشكلة بنيوية، تتطلب مقاربة وطنية شاملة تبدأ أولاً بالاعتراف بحجمها، ثم بوضع خطط إصلاحية عملية تشمل “إعادة تقييم نظام القبول الجامعي” وربطه مباشرة باحتياجات السوق الفعلية، وتعزيز مسارات التدريب العملي والتأهيل المهني داخل الجامعات، بالشراكة مع القطاع الخاص.
يتطلب أيضاً “دعم المبادرات الريادية والمشاريع الصغيرة للخريجين”، وتسهيل وصولهم إلى التمويل والمرافقة التقنية، وربط الجامعات بمراكز توظيف فعالة” تعمل على توجيه الخريجين مباشرة نحو وظائف تناسب اختصاصاتهم، مع تبني استراتيجية اقتصادية واضحة لإحياء سوق العمل التخصصي، وضمان توسيع مجالات التشغيل المهني.
ولاشك أننا في مرحلة سورية حرجة، يُعوَّل الوطن اليوم على شبابه للنهوض من ركام الحرب، من المؤلم، في وقت يتحوّل طموح الطالب الجامعي إلى عبءٍ نفسي، وأن تُختزل سنوات الدراسة إلى مجرد ورقة لا تُسمن ولا تُغني، فالعمل خارج الاختصاص ليس مجرد انحراف في المسار المهني، بل انعكاس لاختلال في منظومة التعليم وسوق العمل على السواء.
ولذلك فإن بناء سوريا المستقبل لا يكون إلا عبر تمكين الشباب في ميادين تخصصهم، واستثمار علومهم ومهاراتهم بما يخدم الوطن ويعيد له كفاءاته التي ضاعت بين الفقر، وسوء التخطيط، وانعدام الفرص، ووضع التخصص المناسب في الموقع المناسب.