الثورة- عبد الحليم سعود:
شهدت سوريا منذ العام 2011، وعلى امتداد سنوات الحرب التي سبقت سقوط النظام البائد، حركتي نزوح داخلي وخارجي للسوريين هي الأوسع في المنطقة والعالم منذ عقود طويلة، حيث تطورت الأحداث من احتجاجات سلمية ضد النظام إلى صراع مسلح استخدم فيه النظام المخلوع أعتى أساليب القمع والقتل والاجرام لإجبار المدنيين على الرضوخ والاستسلام، ولما كانت موازين القوى على الأرض تميل إلى كفة النظام المدعوم من روسيا وإيران، اضطر ملايين السوريين إلى مغادرة مناطقهم بحثاً عن الأمن والأمان، فكانت وجهة قسم منهم إلى مناطق آمنة داخل سوريةـ رغم قلتهاـ أو دول مجاورة كتركيا ولبنان والأردن وبعض الدول العربية، في حين ركب قسم آخر البحر بحثاً عن الأمن والأمان في دول أجنبية كألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى منحت حق اللجوء لهم.
وقد تزامن هذا اللجوء القسري مع أزمات اقتصادية واجتماعية عصفت ببعض الدول المستضيفة، ما أثّر بشكل كبير على حياة اللاجئين السوريين، ورتب عليهم معاناة كبيرة وتحديات مختلفة لها علاقة بقدرتهم على الاندماج بالمجتمعات الجديدة مع الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية والوطنية، وذلك وفقا لكل دولة ومدى قدرة هذه الدولة على تأمين سبل الحياة الكريمة لهم ولعائلاتهم.
ومع اقتراب الحرب من عامها العاشر، وصل عدد اللاجئين في بعض الإحصائيات إلى 6.6 مليون شخص، مشكلين أحد أكبر الحركات البشرية في التاريخ المعاصر، وقد تركّزت غالبية هذه الأعداد في الدول المحيطة بسورية، مما أثّر على بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، وقد حاولت بعض هذه الدول مواكبة هذا التدفق بإجراءات وسياسات داخلية، إلا أنها لم تحقق النجاح المطلوب بسبب تحديات عديدة ظهرت لاحقا، منها تزايد الضغوط على خدمات الصحة والتعليم، وظهور حالات من التوتر الثقافي بين المجتمعات المحلية واللاجئين. ففي الدول العربية كانت المعاناة والتحديات بمعظمها اقتصادية بسبب ضعف وقلة إمكانات هذه الدول، وضعف استجابة المجتمع الدولي لمتطلبات هذه الأزمة وتباطئه في مواجهة تداعياتها، فيما كانت التحديات في معظمها ثقافية في الدول الأجنبية المستضيفة.
وهنا لا بد من التنويه إلى أن عملية اندماج اللاجئ في المجتمع، تعني رغبته بتعلم لغة البلد المضيف، والتكيف مع القيم الاجتماعية فيه، وتكوين علاقات اجتماعية مع أبنائه، والانخراط في سوق العمل، وقد برهن معظم اللاجئين السوريين على قدرات متفاوتة في هذا المجال، من حيث تعلم اللغة وتكوين علاقات اجتماعية والعمل في مختلف المهن المتوفرة، وليس سراً أن الكثير منهم من أصحاب الشهادات والاختصاصات الجامعية والعلمية التي تحتاجها دول اللجوء، وهو ما أسهم في سرعة اندماجهم في مجتمعاتهم. أما الاندماج فهو أقرب إلى عملية فقدان الهوية الثقافية الأصلية واتباع القيم والمعايير الخاصة بالمجتمع المضيف بشكل كامل، حيث يواجه اللاجئون، الذين ينتمون إلى خلفيات ثقافية ودينية متنوعة (مسلمين، مسيحيين، غيرهم)، صعوبة في التكيف مع القيم الاجتماعية الغربية التي قد تكون أكثر علمانية.
ويرى الأستاذ المشارك ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، والزميل الزائر في معهد واشنطن فابريس بالونش أن الاستقرار في دول الجوار هو عملية معقدة وغير مرغوب فيها مقارنة مع معايير الحياة الأوروبية، وبعد أن سمع السوريون عن هذه المشاكل أو عانوا منها بشكل مباشر، قرر العديد منهم التوجه إلى القارة الأوروبية، ومثلهم مثل معظم اللاجئين، يريدون الرعاية الصحية والتعليم الجيدين، وأنهم على أتم الاستعداد للعمل لكنهم يواجهون عوائق أمام جميع هذه المساعي في الدول المجاورة.
وهم يدركون بحسب بالونش أن لدى المجتمعات الأوروبية عراقيلها الخاصة التي تحول دون دمجهم، ولكنهم يعلقون آمالاً كبيرة على مساعدات الانتقال الواسعة المقدمة للاجئين، كما أن السياسة الأوروبية القائمة على لم شمل الأسرة هي ميزة أخرى، إذ تسمح للأشخاص الضعفاء تجنب مخاطر الهروب الأولي، فعلى سبيل المثال، يمكن للأب أن يقوم بهذه الرحلة وحده، وأن يحصل على بطاقة الإقامة، ثم يتقدم بطلب لم الشمل مع زوجته وأولاده وأهله. أما من حيث اللغة والحواجز التعليمية فما زالت اللغة تشكل عائقًا رئيسيًا أمام شريحة واسعة تسعى للاندماج، فعدم إتقان الألمانية أو الفرنسية بشكل كافٍ يعيق فرص العمل، والتواصل، وتكوين علاقات اجتماعية.كما أن هناك العديد من اللاجئين يواجهون مشاكل في استكمال تعليمهم، أو ربما يشكون من عدم توفر برامج تأهيل مهني مناسبة، مما يحد من فرص العمل أمامهم.
كما يعاني اللاجئون من تمييز في سوق العمل، حيث يواجهون صعوبة في الحصول على وظائف مناسبة، أو يتم توظيفهم في وظائف منخفضة الأجر، أو في قطاعات غير متوافقة مع مؤهلاتهم، كما يعاني بعضهم من عدم الاعتراف بمؤهلاتهم إذ لا يتم معادلة الشهادات والمؤهلات العلمية التي يحملها اللاجئون، مما يحد من فرص العمل في مجالات تخصصهم. من بين التحديات أمام اللاجئين، ما يسمى بالصدمة النفسية إذ يعاني الكثير من اللاجئين من اضطرابات نفسية نتيجة تجارب النزوح، والخسائر، والاضطهاد، وهو ما يعيق قدرتهم على التفاعل مع المجتمع بشكل فعال.
كما يواجه بعض اللاجئين رفضًا أو تمييزًا من قبل المجتمع المضيف، ما يؤدي إلى العزلة، وعدم الثقة، وصعوبة تكوين علاقات اجتماعية.
ما من شك أن الكثير من اللاجئين يطمح للعودة للوطن والمساهمة في إعادة تأهيله وبنائه، وثمة أعداد لا بأس بها تريد العودة من زاوية الانتماء وحب المشاركةـ وقد عاد عدد لا بأس به منهم بعد سقوط النظام البائدـ وهؤلاء بأمس الحاجة للدعم وتوفير المناخ المناسب لهم ليكونوا فاعلين في عملية البناء التي يحتاجها الوطن بعد سنوات من الدمار والخراب والهجرة القسرية، وهذا يتطلب انتهاج سياسات اقتصادية تأخذ في عين الاعتبار الاستفادة من كل الامكانات والمهارات التي يملكها هؤلاء، وتقديم فرص مناسبة لهم لا تقل عن الفرص التي حازوا عليها أو حرموا منها في دول اللجوء.