الثورة- منذرعيد:
تُعد العدالة الانتقالية خطوة حاسمة نحو مستقبل سلمي ومستقر في سوريا، بعد أكثر من عقد من الصراع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلا أن تحقيقها لا يمكن أن يتم بمعزل عن تكامل الجهود بين الداخل السوري والمجتمع الدولي.
فالعدالة لا تُفرض من الخارج، لكنها تحتاج إلى إرادة سورية حقيقية تتلاقى مع دعم دولي يوفر الأرضية المناسبة، ويضمن عدم إفلات الجناة من العقاب، ويُمهّد الطريق نحو سلام مستدام.
في هذا السياق، أكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، خلال زيارته إلى دمشق في كانون الثاني الماضي، أن “العدالة الانتقالية أمر بالغ الأهمية مع تقدم سوريا نحو المستقبل”، مشدداً على أن “الانتقام والثأر ليسا أبداً الحل”.
وأوضح تورك أن التحقيق في الانتهاكات مثل الإخفاء القسري، والتعذيب، واستخدام الأسلحة الكيميائية، يجب أن يتم بشكل عادل ومحايد، مشيراً إلى أن هذه الأفعال تُعد من أخطر الجرائم وفق القانون الدولي الإنساني، وتعكس الوحشية المفرطة التي استخدمها النظام السابق في قمعه.
ورغم صعوبة محاسبة الجناة داخل سوريا في الوقت الراهن، فإن المجتمع الدولي كان قد خطا خطوات ملموسة في هذا المسار، من خلال دعم آليات مثل “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” التي تعمل على جمع الأدلة على الجرائم منذ عام 2011، إضافة إلى محاكمات في عدد من الدول الأوروبية لمسؤولين سوريين سابقين بناءً على مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، وهذه الجهود تُرسل برسالة واضحة بأن العدالة قد تتأخر لكنها لا تسقط بالتقادم.
كما يمكن للدول الكبرى والمنظمات الدولية أن تلعب دوراً محورياً في دعم العدالة الانتقالية في سوريا، عبر الضغط السياسي على جميع الأطراف للانخراط في عملية سياسية عادلة وشاملة، بما يضمن محاسبة مرتكبي الانتهاكات، ويفتح الباب أمام الانتقال السياسي الذي ينشده السوريون.
ولا يكتمل مسار العدالة الانتقالية من دون تمكين الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، إذ تلعب هذه الجهات دوراً فاعلاً في توثيق الانتهاكات، وتمثيل صوت الضحايا، وكشف الحقيقة، كما أن إشراك اللاجئين والنازحين في هذا المسار يضمن عدالة شاملة لا تستثني أحداً من السوريين، ومن هنا، يُعد دعم هذه المنظمات أولوية، كونها تشكل الجسر بين المعاناة والعدالة.
ومن جهة أخرى، يمكن ربط إعادة الإعمار في سوريا بتقدم ملموس في مسار العدالة الانتقالية، من خلال تمويل مشاريع تُعنى بالمصالحة الوطنية، وبناء مؤسسات نزيهة، وتأهيل الضحايا، وتطوير النظام القضائي ليصبح مستقلاً وقادراً على تحقيق العدالة.
وقد تبنَّت الأمم المتحدة تحت مبدأ سيادة القانون سياسة واضحة لمنع الإفلات من العقاب، معتبرة أن محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم الجسيمة هي مسؤولية تقع أولاً على عاتق الدول، وينص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي لا يجب أن تمر دون محاسبة، بل يجب ملاحقة مرتكبيها عبر أنظمة قضائية وطنية مدعومة بتعاون دولي فعال.
ووفق ما جاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة في 23 أغسطس/آب 2004، فإن أدوات العدالة الانتقالية لا تقتصر على المحاكم وحدها، بل تشمل لجان الحقيقة، والمحاكم المختلطة، والدعم المؤسسي الذي تقدمه الأمم المتحدة لتعزيز سيادة القانون في الدول الخارجة من النزاعات.
فإرساء العدالة هو حجر الأساس لإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري، للخروج من دوامة العنف نحو مستقبل أكثر إنصافاً واستقراراً.
في المحصلة، إن العدالة الانتقالية في سوريا ليست مهمة مستحيلة، لكنها تتطلب تضافر الإرادة الوطنية مع الالتزام الدولي، وتغليب منطق العدالة على منطق الثأر، والمحاسبة على التواطؤ أو التغاضي، والعدالة الانتقالية ليست رفاهية ولا انتقاماً، بل هي خطوة جوهرية لبناء سوريا جديدة قائمة على الحقوق، والكرامة، والمواطنة، والمجتمع الدولي، بما يملك من أدوات سياسية وقانونية ومادية، يمكن أن يكون شريكاً حقيقياً في هذا الطريق، إذا وُجدت إرادة سورية جامعة، تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.