الثورة- راغب العطيه:
إن العدالة الانتقالية في سوريا لها علاقة وثيقة بتحقيق المصالحة الوطنية وبناء الدولة، وذلك لأن هذه العملية السياسية والقانونية هي الأداة الأساسية للتعامل مع مفرزات الحرب، ومعالجة إرث النظام المخلوع المثقل بالانتهاكات والجرائم، ما يجعل المصالحة الوطنية وبناء الدولة هدفان أساسيان لهذا الاستحقاق الوطني، فالإجراءات القانونية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدف إلى معالجة آثار الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها نظام بشار الأسد المخلوع بحق السوريين على امتداد سنوات الثورة، بما تشمل من محاكمات عادلة، ولجان لكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، كل ذلك وغيره، الغاية منه هو إحقاق العدالة للضحايا، ومساءلة الجناة، والأمر الأهم هو منع تكرار مثل هذه الانتهاكات في المستقبل.
وجاء في نص المرسوم رقم (20) لعام 2025 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية الذي أصدره السيد الرئيس أحمد الشرع في 18 أيار الماضي ما يلي: “بناءً على الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية العربية السورية واستناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وإيماناً بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا، وتحقيقاً للمصالحة الوطنية الشاملة، تشكل هيئة مستقلة باسم “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، تعنى بكشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية”.
وقال رئيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية عبد الباسط عبد اللطيف في كلمة مصورة بثت في 23 أيار 2025 على حساب الهيئة في “فيسبوك”: تؤكد الهيئة أن العدالة في سوريا لن تكون انتقامية، بل قائمة على كشف الحقيقة، والمساءلة، والمحاسبة، ومنع الإفلات من العقاب، وترسيخ العدالة وسيادة القانون، وستكون هذه الهيئة منصة فاعلة لإنصاف الضحايا، وتكريمهم، وتخليد ذكراهم، وجبر الضرر، وصولاً إلى مصالحة وطنية شاملة، تحفظ كرامة السوريين جميعاً.
بدورها أشادت الأمم المتحدة بقرار تشكيل هذه اللجنة واصفة إياه بأنه خطوة أساسية نحو بناء مستقبل أفضل لجميع السوريين، وقال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك من جنيف بتصريح في هذا الخصوص: “إن العدالة الانتقالية ضرورية لتحقيق السلام الدائم والمصالحة بين جميع السوريين، وإن لكل ضحية وكل مجتمع متضرر الحق في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة وجبر الضرر، وضمان عدم تكرار الانتهاكات والفظائع التي وقعت في الماضي”.ولأن عملية بناء الدولة السورية الحديثة تقوم على مبدأ العدالة والمساواة، فالعدالة الانتقالية في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا، تساعد بشكل كبير في التأكد من أن حقوق الإنسان الأساسية ستكون محمية في المستقبل.
كما يتطلب بناء الدولة في سوريا اليوم إلى جانب إقامة نظام سياسي يتناسب مع التغيير الذي أحدثته الثورة السورية، إعادة بناء المؤسسات الديمقراطية والحقوقية التي تضمن الحوكمة الرشيدة وتعزيز سيادة القانون، وذلك من خلال وضع أسس سليمة لنظام قضائي عادل ونزيه ومستقل، يعزز من فاعلية المؤسسات الوطنية ويمنع تكرار الأزمات. بالتوازي تتحقق المصالحة الوطنية في سوريا من خلال تعزيز الحوار بين جميع السوريين، والبحث عن حلول سلمية للمشاكل الاجتماعية والسياسية، وخلق بيئة من التعاون والتفاهم بين الأفراد والجماعات، بما يسهم في بلسمة الجراح المجتمعية، والذي يأتي من محاسبة الجناة ومساعدة الضحايا على استعادة حقوقهم، وبالتالي المساهمة في تقليل مشاعر الغضب والكراهية بين مختلف فئات المجتمع، للوصول إلى بناء الثقة بين جميع أفراد الشعب السوري.
وفي حديث سابق مع “الثورة” أكد المحامي والناشط الحقوقي ميشال شماس إن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا واجب أخلاقي وسياسي وقانوني وإنساني، وهو حجر الزاوية في عملية إعادة بناء الدولة، والطريق الأفضل لتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة بناء الثقة بين أطياف المجتمع السوري. وفي الختام فإن سوريا تقف اليوم على مفترق طرق مفصلي في تاريخها الجديد، بعد أربعة عشر عاماً من الحرب المدمرة، وعليه فإن الخيارات الاستراتيجية التي ستتخذها الدولة والمجتمع خلال هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، ستحدد بشكل حاسم مسار البلاد لعقود قادمة، وستؤثر بصورة مباشرة وعميقة على فرص بناء الدولة القوية الحاضنة لجميع أبنائها، وفي الوقت نفسه تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تؤدي إلى استقرار مستدام وسلام اجتماعي ينشده كل السوريين.