الثورة – هبة علي:
في ظل الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح العالم أكثر اتصالاً وتواصلاً، لكن في المقابل ظهر تحدٍ اجتماعي جديد يتمثل في ظاهرة التنمر الإلكتروني. فالتنمر الإلكتروني لم يعد مجرد سلوك جارح أو كلام مؤذٍ عبر الشاشة، بل تحول إلى خطر يهدد الصحة النفسية للعديد من المستخدمين، وقد تكون نتائجه مأساوية تصل إلى الانتحار في بعض الحالات.
في هذا السياق نسلط الضوء على ظاهرة التنمر الإلكتروني، أبعاده، مخاطره، وسبل التصدي له في مجتمعاتنا.
ما التنمر الإلكتروني؟
تعرف الباحثة الاجتماعية روز الجبيلي: “أنه استخدام وسائل التواصل الرقمي، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، الرسائل النصية، أو البريد الإلكتروني، لإيذاء شخص أو مجموعة عبر إهانتهم، تهديدهم، نشر الشائعات، أو تعريضهم للإساءة المستمرة، وتختلف مظاهره بين السخرية، الإقصاء، المضايقة، وحتى الملاحقة الرقمية المستمرة.” وتضيف: هذه الظاهرة تزداد خطورتها بسبب الطابع المجهول الذي يمنحه الإنترنت للمتنمرين، مما يزيد من جرأتهم على إيذاء الآخرين دون تحمل تبعات مباشرة. وأكدت الباحثة الجبيلي أن الإحصاءات العالمية تشير إلى أن التنمر الإلكتروني أصبح من الظواهر المنتشرة بين فئة الشباب، خصوصاً المراهقين، إذ تتراوح نسبة التعرض له بين 20 بالمئة إلى 35 بالمئة حسب الدراسات الدولية. وترى أن التنمر الإلكتروني يتسبب في أضرار نفسية واجتماعية عميقة منها، اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق وتدني تقدير الذات والشعور بالعزلة.
انخفاض الأداء الأكاديمي والمهني
هذه الأضرار تؤدي أحياناً إلى عواقب مأساوية، ومنها الانتحار.. وحول التنمر الإلكتروني والانتحار كواقع مرير، أشارت الباحثة الجبيلي إلى أنه من الظواهر المؤلمة التي يسببها التنمر الإلكتروني حالات انتحار لضحاياه، ولاسيما بين الشباب الذين يمثلون الشريحة الأكثر تفاعلاً مع الإنترنت. تظهر دراسات عدة أن تعرض الشباب المتكرر للتنمر الإلكتروني يزيد بشكل ملحوظ من احتمالية تعرضهم لمشاعر اليأس التي قد تدفعهم لمحاولات الانتحار.فقد شهدت السنوات الأخيرة حالات انتحار مؤثرة لمؤثرين رقميين ومستخدمين عاديين، عقب حملات تنمر شديدة من خلال تعليقات مسيئة على منصات التواصل الاجتماعي.”
قصص حقيقية
سارة.. فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً تعرضت لحملة تنمر مستمرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من زملائها بعد انتشار شائعات كاذبة عنها، أدى الضغط النفسي المستمر إلى تراجع حالتها النفسية بشكل حاد، وانسحابها من المدرسة، وفي نهاية المطاف محاولة الانتحار.. تم إنقاذها بعد تدخل أسرتها وخضوعها لجلسات علاج نفسي، لكنها لا تزال تعاني من آثار تلك التجربة. أما ليلى، التي تعرضت لمضايقات إلكترونية من مجهولين استمرت لأشهر، شملت تهديدات ورسائل مهينة، تدهورت حالتها النفسية وأدت إلى عزلة اجتماعية شديدة، لكنها تمكنت عبر برامج الدعم النفسي والمجتمعي من استعادة حياتها والبدء في حملة توعية ضد التنمر الإلكتروني.
تفاقم الظاهرة
وأكدت الباحثة الجبيلي أن سهولة الوصول والتواصل عبر الإنترنت من دون رقابة كافية، من أهم أسباب تفاقم هذه الظاهرة، موضحة أن استخدام هويات مجهولة أو أسماء مستعارة تتيح للمتنمرين التحرر من المساءلة. وعن مخاطر نقص الوعي العام حول أضرار التنمر الإلكتروني وكيفية مواجهته، بينت أن الضغوط النفسية والاجتماعية قد تدفع البعض للتنفيس بأساليب خاطئة.” وفي هذا الإطار قالت الباحثة الجبيلي: تتطلب مواجهة هذه الظاهرة خططا شاملة تشمل، التوعية المجتمعية عبر حملات توعوية تستهدف المدارس والجامعات والأسر، التشريعات القانونية مثل سن قوانين صارمة تعاقب المتنمرين وتوفر حماية قانونية للضحايا.
الدعم النفسي من خلال توفير خدمات دعم نفسي واجتماعي لضحايا التنمر، مع تمكينهم من طلب المساعدة، وكذلك تقنيات المراقبة عبر تطوير آليات ذكية لرصد المحتوى المسيء وإزالته سريعاً. تشجيع الحوار: بناء بيئة مفتوحة للحوار داخل الأسرة والمدرسة لتمكين الضحايا من التعبير عن معاناتهم.واقترحت الباحثة الجبيلي برامج ومبادرات محددة لتفعيل آليات التصدي، وإطلاق البرامج والمبادرات، كبرنامج “سلام رقمي” للتوعية المدرسية، وهو برنامج يدمج التوعية بمخاطر التنمر الإلكتروني ضمن المناهج الدراسية، ويشمل ورش عمل تفاعلية للطلاب والمعلمين وأولياء الأمور لتعزيز الوعي الرقمي والمهارات الاجتماعية.
“كفى تنمراً”..
حملة إعلامية مستمرة على مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تهدف لتغيير الثقافة المجتمعية تجاه التنمر، مع تسليط الضوء على قصص حقيقية لضحايا وأهمية الوقوف ضد هذه الظاهرة.
خط دعم نفسي رقمي مجاني، وهو إطلاق رقم هاتف ومنصة إلكترونية تقدم الدعم النفسي الفوري والاستشارات المجانية للشباب المتضررين من التنمر الإلكتروني، مع إمكانية متابعة الحالات بشكل مستمر.
تعاون مع منصات التواصل عبر إقامة شراكات مع شركات التواصل الاجتماعي لتطوير أدوات ذكية لرصد المحتوى المسيء تلقائياً، وتوفير آليات سهلة للإبلاغ عن التنمر الإلكتروني مع سرعة الاستجابة.تشريع قانوني شامل، يمثل الدعوة إلى سن قانون يجرّم التنمر الإلكتروني ويحدد عقوبات رادعة، بالإضافة إلى آليات قانونية لحماية الضحايا وتسريع إجراءات المحاكمات.
مبادرة “الأمان الرقمي للأسرة”، وهذه تعتني بتقديم دورات ومواد تثقيفية للأسر لتعريفهم بكيفية حماية أطفالهم عبر الإنترنت، وتعزيز الحوار المفتوح حول استخدام التكنولوجيا.
وخلصت الجبيلي إلى أن التنمر الإلكتروني يشكل تحدياً خطيرا على صحة وكرامة الأفراد، خاصةً الشباب، وقد يؤدي إلى نتائج مأساوية تصل إلى الانتحار.. لذلك، يتطلب الأمر جهداً مجتمعياً متضافراً يشمل التعليم، التشريع، الدعم النفسي، والتقنية، لضمان خلق بيئة رقمية آمنة تحمي المستخدمين وتسمح لهم بالتعبير بحرية واحترام.
وأكدت الباحثة أن إطلاق البرامج والمبادرات المقترحة سيشكل خطوة مهمة نحو بناء مجتمع أكثر وعياً ومسؤولية تجاه هذه الظاهرة، مما يحفظ حقوق الأفراد ويعزز من قيم الاحترام والتسامح.