أين تقف العلاقات الإنسانية في بيئة العمل؟

الثورة – ميسون حداد:

في زمنٍ لم يعد فيه الانضباط وحده كافياً لضمان النجاح، تتأرجح مؤسسات كثيرة بين التشدد الإداري الذي يخنق الإبداع، و التراخي المفرط الذي يبدّد الجدية والإنجاز، وبين هذين الحدّين تتشكل اليوم معادلة جديدة في عالم الإدارة: لا إنتاجية بلا رضا داخلي، ولا ولاء وظيفي بلا علاقة إنسانية متوازنة بين الموظف ومكان عمله.

في هذا السياق، يؤكد المدرب وجيه البني، المتخصص في تنمية مهارات الموارد البشرية وريادة الأعمال، لصحيفة “الثورة” أن العلاقات الاجتماعية في بيئة العمل لم تعد ترفاً ولا تفصيلاً جانبياً، بل استثمار استراتيجي في رأس المال البشري.

 

من الرفاهية إلى الضرورة

بات قسم الموارد البشرية معنياً اليوم ببناء ما يسميه البني “بيئة عمل صحية”، وهي بيئة لا تقوم على الرواتب أو الامتيازات المادية فقط على أهميتها، بل على الروابط الإنسانية بين الزملاء، وعلى الإحساس بالدعم والانتماء.

ويشير البني إلى أن المؤسسات التي تتعامل مع العلاقات الاجتماعية كمساحة للترفيه أو “كماليّات وظيفية” تفقد جانباً هاماً من تأثيرها، ويبين: “إذا اقتصر رضا الموظف على المكافآت المادية فقط، فسيبقى هذا الرضا سطحياً، أما الانتماء الحقيقي فيُبنى عندما يصبح هناك ارتباط عاطفي بالمكان والفريق”.

ومن الأمور اللافتة في هذا السياق، وجود دراسة استقصائية أُجريت في جامعة “هارفارد” تشير إلى أن 72% من الموظفين يعتبرون التقدير الذي يأتي من الزملاء أكثر تأثيراً من التقدير الإداري، ما يؤكد أن العلاقات بين الأقران عامل إنتاجي، لا اجتماعي فقط.

ولا يقتصر أثر العلاقات الجيدة على تحسين المزاج العام داخل المكتب، بل يمتد ليصبح محفزاً مباشراً على الإبداع وتحمّل الضغط، وتقليل الاحتراق الوظيفي، فالعامل الذي يشعر بأن هناك من يسانده داخل فريقه، يكون أكثر قدرة على تجاوز الأزمات المهنية اليومية.

ومن النظرية النفسية، فبحسب تسلسل الأولويات في هرم ماسلو، فتكون تسلسل الحاجات الأساسية، الراتب، الأمان، ثم الانتماء والتقدير، لكن الواقع العملي يقول إنه يمكن للموظف أن يتقاضى راتباً عالياً، لكن يعمل ببيئة معزولة أو عدائية ويبقى غير راضٍ، أما موظف يعمل براتب متوسط لكن محاط بفريق داعم، ومتعاون سيشعر بالرضا والاستقرار أكثر.

ويستشهد البني بأرقام للدراسات: “كل دولار واحد يُنفق على تعزيز العلاقات الاجتماعية داخل المؤسسة يعود بمتوسط 4.15 دولارات في زيادة الولاء الوظيفي، و2.70 دولار في تقليل تكاليف التوظيف، و3.27 دولارات في تحسين الإنتاجية”.

ويتابع البني الحديث في الوقت نفسه عن الوجه الآخر للعلاقات إذا خرجت عن إطارها المهني، إذ قد تتشكل مجموعات مغلقة، وتُستخدم الصداقة كأداة نفوذ، وتتحول المجاملة إلى معيار لاتخاذ القرار، ويحذر: “العلاقات الاجتماعية تصبح سامة عندما تتجاوز حدودها، فتُضعف الشفافية وتخلق تحزّبات داخل الفريق وتؤثر في العدالة المهنية”.

العلاقات بين المرونة والانضباط

يؤكد البني أن دور القائد لا يقتصر على ضبط الإيقاع الإنتاجي، بل يمتد إلى بناء ثقافة إنسانية داخل الفريق، لكنه يضيف شرطاً واضحاً، علاقة إنسانية من دون فوضى، وتفاعل اجتماعي من دون تعطيل، ويقترح ما يسميه “مبدأ الثلاثية الذهبية” في إدارة بيئة العمل وتتضمن أولاً الوضوح، قواعد معلنة لما هو مسموح وممنوع في التفاعل داخل الفريق، ثم القدوة، أن يطبّق المدير ما يدعو إليه، لا أن يكتفي بالتوجيه، والمرونة، فالسماح بالتواصل غير الرسمي، لكن في أوقات وحدود واضحة.

ويمكن للمدير أن يحافظ على تواصل إنساني إيجابي داخل الفريق من خلال بعض الخطوات الفعالة منها:

– خلق مساحات تواصل مفتوحة للجميع، لا تقوم على الفِرق أو المجموعات المغلقة.

– تخصيص أوقات معينة للتواصل غير الرسمي، مثل استراحة الصباح أو وقت الغداء، بحيث تكون محددة وواضحة.

– تشجيع الأحاديث الخفيفة ذات الطابع الإنساني، مع تجنّب المواضيع الخلافية أو الحساسة.

– أن يكون المدير حاضراً بمرونة وذكاء، يعرف متى يترك الفريق يتفاعل، ومتى يعيد الأمور إلى المسار المهني إذا خرجت عن حدّها.

ويوضح البني معادلة علمية مختصرة: “70% من العمل يرتبط بالمهام والأهداف والنتائج، و30% بالجانب الإنساني، لكن هذه الـ30% هي التي تحمي الـ70% من الانهيار”، ويضيف أن المؤسسات قد تحتاج إلى موظف مكلّف رسمياً بإدارة الفعاليات الاجتماعية، شرط أن تكون موجّهة ومضبوطة، لا عبثية أو مكرّسة لتشكيل “شلل داخل الشركة”.

حين يغيب البعد الإنساني

تتراكم بغياب البعد الإنساني خسائر غير مرئية بحسب البني كارتفاع معدل الدوران الوظيفي، والشعور بالعزلة، وغياب الولاء، والإنجاز بلا روح، ويضيف حول إحدى الإحصائيات، إن واحداً من كل ثلاثة موظفين يغادر وظيفته بسبب غياب العلاقات الاجتماعية الصحيحة داخل بيئة العمل، وهنا يختصر البني فكرته بجملة مفتاحية: “الإنسان بلا عمل يفقد هويته، والعمل بلا إنسان يفقد روحه”.

العلاقات الاجتماعية ليست نشاطاً جانبياً في بيئة العمل، ولا نقيضاً للانضباط، بل هي الجسر الذي يوازن بين الإنتاجية والإنسانية. فالمؤسسة التي تستثمر في بناء روابط صحية بين موظفيها، تبني في الحقيقة ولاءً طويل الأمد، وتقلل تكاليف الاحتراق، وتربح أكثر مما تنفق.

ولذلك، تلخص المعادلة الإدارية الحديثة نفسها في جملة واحدة: “لا بيئة عمل ناجحة بلا بيئة إنسانية سليمة”.

آخر الأخبار
"أنا استخبارات ولاك" الدولة أولاً.. الشرع يطلق معركة النزاهة ويقطع طريق الفساد "الصحة العالمية": تقلص وصول 7.4 ملايين شخص إلى العلاج في سوريا الخوف من التحدث أمام الجمهور.. يضعف الشخصية ويقتل الطموح أين تقف العلاقات الإنسانية في بيئة العمل؟ الطلاق.. ضحايا الأزمات الاقتصادية وزعزعة استقرار الأسر شتاينماير يدعو لعدم التسرع في ترحيل اللاجئين السوريين من ألمانيا الضغط النفسي قبل الامتحانات ودور الأسرة والمدرسة في دعمه دفء المواطنة الشرع يستعد لدخول البيت الأبيض في أول زيارة لرئيس سوري منذ الاستقلال إدارة ترامب تتحرك لإلغاء "قانون قيصر" قبل القمة المرتقبة مع الشرع البيت الأبيض يعلن لقاء الرئيسين الشرع وترامب الإثنين.. وواشنطن تتحرك لرفع العقوبات الرئيس الشرع إلى البرازيل.. فهم عميق للعبة التوازنات والتحالفات      هل يشهد سوق دمشق للأوراق المالية تحولاً جذرياً؟  لحظة تاريخية لإعادة بناء الوطن  وزير الاقتصاد يبحث مع نظيره العماني تعزيز التعاون المستشار الألماني يدعو لإعادة اللاجئين السوريين.. تحول في الخطاب أم مناورة انتخابية؟ صناعة النسيج تواجه الانكماش.. ارتفاع التكاليف والمصري منافس على الأرض القهوة وراء كل خبر.. لماذا يعتمد الصحفيون على الكافيين؟ إعادة التغذية الكهربائية لمحطة باب النيرب بحلب