نحن السوريين والموقف من السلطة الجديدة

فادي كحلوس – كاتب سوري:

لا يَخفى على أي سوري متابع للأحداث والتطورات اليومية في سورية منذ سقوط النظام البائد وحتى اللحظة، مدى تلقائية معظم مواقفنا نحن السوريين، حيال السلطة الانتقالية في سوريا اليوم والمتمثلة بالسيد أحمد الشرع الرئيس الانتقالي للجمهورية. وهذه التلقائية تنقسم، بعموميتها وبطبيعتها الموغلة بالبدائية، بين مؤيدٍ أو رافض لها. هذه المواقف “التلقائية البدائية” تشكلت لحظة دخول السيد الشرع دمشق ومستمرة حتى اللحظة. ونعني بالتلقائية؛ أن معظم من أيّد ومن رفض السلطة الجديدة يمتلك بديهيات شكلت الأساس الوحيد لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك. ونقول عن وسم هذه التلقائية بـ “البدائية” كونها لا تعقل ولا تتفكر، بل تستند إلى انتماءات أولية تقع خارج إطار التفكير والعقلانية. ولنا أيضاً أن نلاحظ أن تلك البديهيات تنقسم إلى قسمين، أو يمكن تصنيفها ضمن مستويين: المستوى الأول من البديهيات هو الذي لا يتعدى كونه بديهيات ؛ دينية أو إثنية، فالشارع السوري، بمعظمه، أيّد أو ناهض السلطة الجديدة بناءً على كونها عربية أو ذات صبغة دينية أو كلاهما معًا. أما المستوى الثاني منها فيتمثل في بديهيات قوامها الآراء المسبقة والأحكام النمطية المقولبة، أو الأيديولوجيا، أو المثاليات الزائدة، أو بجميعهم معاً واعتبارهم حقائق مطلقة. ويمكننا خص هذا المستوى من البديهيات بالمثقفين الرافضين لبديهيات المستوى الأول؛ أي أنهم لا ينطلقون عادة في مواقفهم من أرضية إثنية أو دينية، بل من نواظم وطنية حديثة كالمواطنة والديموقراطية وحقوق الإنسان. ولسان حال معظم أصحاب هذا المستوى يقول اليوم: اللاإسلاموي جيد حتى يثبت العكس. أو يقول: الإسلاموي أو صاحب الأيديولوجيا الدينية سيّئ حتى يثبت العكس.

ولنقد هذا الموقف وللتثبت من صحة هذه البديهية ما علينا إلا الرجوع لسلوكيات الطرفين؛ أصحاب الخلفية الدينية وأصحاب الخلفية اللادينية ومراجعتهما مراجعة موضوعية، ليتبين لنا أن تاريخ كلا التيارين ليس ناصع البياض، وأن كليهما اقترفا أخطاءً بحق القضايا الوطنية. والأمثلة على ذلك، ضمن هذا الحقل، كثيرة، بل وافرة. ولنا هنا أن نعود بذاكرتنا إلى سنين الثورة السورية الأربعة عشر، إن كنا لا نريد أن نعود أبعد من ذلك، ونرى ممارسات كلا التيارين ونرى أيضاً انزلاقاتهم الأخلاقية. كما أشير هنا إلى ما أعتقده صحيحاً، وأثّر في موقف أصحاب المستوى الثاني من السلطة الجديدة وهو خطاب شيطنة الإسلامويين (ولا أقول بأنهم ملائكة) والذي عملت عليه كل من الأنظمة العربية الاستبدادية والتي ادّعت العلمانية من جهة، والخطاب العالمي الذي شكّل ما هو معروف بالاسلاموفوبيا وخاصة ما بعد أحداث 11 أيلول.

خلال الأحداث التي مرت بها سورية، ما بعد وصول السلطة الجديدة لسدة الحكم في سورية: “أحداث الساحل في آذار الماضي” “أحداث جرمانا وصحنايا في نيسان الماضي” وصولاً إلى أحداث السويداء التي لانزال نعيش تبعاتها اليوم؛ تجلت التلقائية البدائية في استصدار الموقف من السلطة الجديدة بشكل فج وأكثر وضوحاً، ففريق التأييد للسلطة حمّل المسؤولية تلقائياً على الطرف الآخر، بينما حمل الطرف الآخر السلطة مسؤولية ما جرى، ورأينا، أيضاً، أنه بعد التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس في دويلعة في حزيران الماضي كيف جرت الإشارة بأصابع الاتهام للسلطة الحالية، إن لم يكن بالوقوف وراء هذا التفجير فبالطريقة التي تعاملت معه بها، وأيضاً جرى ذلك انطلاقاً من أحكام مسبقة وتصورات نمطية مقولبة، أي دون أي احتكام للعقل. وهنا لا أخوض في مسألة من يتحمل هذه المسؤولية، بل حول الكيفية التي تمت بها صياغة المواقف وتحميل المسؤولية، ونجد أن كلا الموقفين لم يبنيا موضوعياً، بل تلقائياً. وهنا تكمن المشكلة. والمشكلة الأكبر، باعتقادي، هي أن الشارع السوري ومثقفيه قد وقعا في فخ التلقائية البدائية بذات السوية؛ فلم نجد عند كلا الطرفين إدانة مبدئية واضحة للانتهاكات التي مارسها كلا طرفي الأحداث التي وقعت. كما لم نجد من يتأكد من مصداقية الخبر وصحة الصور والفيديوهات التي “توثق” تلك الانتهاكات، وكم من “مثقف” سوري رأيناه يرتد إلى بديهياته الدينية أو إثنيته أو أيديولوجيته عند أول “هزة وطنية” تعرض لها.

أمور أخرى عديدة لم تؤخذ بالحسبان حين تم اتخاذ الموقف من السلطة “سلباً أم إيجاباً”، نذكر منها: عمر السلطة الجديدة؛ وهو بضعة أشهر؛ أي أن الدولة السورية الحالية هي دولة جنينية، قيد التشكل، وتفتقر إلى عوامل حاسمة لمواجهة التحديات/ الأحداث التي ذكرناها سابقاً، كالإمكانات المادية المهولة والخبرة في إدارة الدولة، وهذا مفاده أن نضع الدولة السورية اليوم في خانة المحاولة، محاولة إنشاء دولة جديدة.

أضف إلى ذلك تركة الأسد الثقيلة التي ورثتها السلطة الجديدة في دمشق، فلحظة هروب الأسد كانت سورية جثة هامدة على كافة الصعد وعلى جميع المستويات؛ المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، حيث التشظي الهوياتي والشروخ الطائفية والفقر والفساد، وهذه التحديات المهولة لا تستطيع الدولة وحدها وبهذه الإمكانات وبهذا الوقت القصير أن تتعامل معها وكأننا في دولة آمنة ومستقرة منذ عقود.

وما ذكرته آنفاً ليس محاولة لتبرئة السلطة أو إدانتها، بل نقداً لتلقائية المواقف “من أنتقد؟” من جهة، وتلمّساً للدقة وتوخياً للموضوعية بما يخص “ماذا انتقد ولماذا؟”. في السياسة؛ من العقلانية والحكمة بمكان أن تنطلق، وتتوجه، مواقفنا من السلطة وغيرها اعتماداً على عدة عوامل، ولعل أهمها، حين نريد سردها، أن نقول: الموضوعية.

فالعامل الموضوعي، وهو هنا العامل الوطني، المتجرد من كل منبت ديني أو إثني أو أيديولوجي.

وهو الوحيد القادر على القراءة العقلانية للسلطة وتقييم مبادئها وممارساتها سلباً أو إيجاباً.

فالموضوعية تستدعي بالضرورة التجرد من ذلك بالإضافة إلى التجرد من كل الرغبات والأمنيات والتكهنات والمصالح الشخصية، وهذا ما يحيلنا إلى جهاد النفس، والذي يستهدف نقد الذات وكبت رغباتها والتحري من قناعاتها وبديهياتها وتغليباً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة أو الشخصية.

وثاني تلك العوامل، باعتقادي، هو وضع الأمور بسياقها وضمن ظروفها وشروطها، أي أن يكون طرحنا حول طبيعة السلطة الجديدة وممارساتها مرتبط بواقعها كما هو هذا الواقع، لا كما نرى أنه كذلك أو عليه أن يكون، فنقع في فخ المثاليات.

وفي الواقع لا وجود للمثاليات، فالمواقف السياسية تُبنى وفقاً للمبادئ الوطنية، أي وفقاً للمصلحة العامة، ووفقاً لترجمات تلك المبادئ من قبل السلطة إلى ممارسات، فنقول على سبيل المثال: لست مع هذه السلطة أو تلك كونها لا تعترف بمبدأ دولة المواطنة؛ دولة الكل الاجتماعي، وأن ممارساتها السياسية تقوم على أسس طائفية أو طغموية، أو أن أعارض سلطة ما كونها تعترف بمبادئ حقوق الإنسان لكن ممارساتها تنتهكها، وعليه، فإن مواقفنا بهذه الحالات تصدر بناءً على المبدأ والممارسة، النظرية والتطبيق، الفكر والسلوك في آن معاً، وهذا ما يحتاج إلى وقت كي يتبين، فلا يصح هنا استقراؤه أو استنتاجه مسبقاً، وإلا نكون قد وقعنا في فخ التلقائية البدائية، وهذا ما افترض وقوع معظمنا فيه عند تصدير موقفنا من السلطة الجديدة.

سورية الجديدة اليوم دولة هشة تعيش مرحلة انتقالية، ما يجعلها حقيقةً عرضة للخطر، وأي خطر! خطر وجودي يستهدفنا، نحن السوريين، جميعاً.

إن الأوطان لا تُبنى بالانفعالات ولا بالتلقائية، بل بنهج واستراتيجيات تستهدف بناء الوطنية السورية وصولًا إلى سورية الدولة الوطنية الحديثة.

إن السلطة الحالية، أو أي سلطة أخرى كانت مكانها اليوم تحتاج إلى رعايتنا جميعاً، على اعتبارها صمام أمان سورية، وهذه الرعاية لا تأتي من موقف (مع أو ضد) بل من موقف نقدي داعم؛ انتقد كي أصحح خطأ تمارسه السلطة، لا أنتقدها بهدف إقصائها أو تدميرها، فاليوم، إقصاء أو تدمير السلطة الحالية، أو أي سلطة أخرى كانت مكانها، هو إقصاء لنا جميعاً وتدمير لسورية وللسوريين، فتعقُد الوضع السوري وهشاشته هما من يمليان علينا اتخاذ هذا الموقف، ليس حباً لأحد أو كرهاً لأحد، وأولاً وآخراً، هذه السلطة انتقالية، مؤقتة، والدائم هو سورية والسوريون، وإن الإبقاء على مسافة نقدية بيننا، نحن السوريين، وبين السلطة وممارساتها هو من سيحكم على شرعية وصوابية هذه السلطة، وبتغير الممارسات تتغير المواقف.

سورية اليوم كلها أمام استحقاقات وتحديات كبيرة وهائلة، السلم الأهلي، العدالة الانتقالية، إعادة الإعمار، النهوض والتنمية، نازحون ولاجئون، تحالفات بقيادة “إسرائيل” أو برعايتها، وهذا يتطلب منا، أول ما يتطلب، أن نكون موضوعيين حين نتخذ موقفاً ما تجاه السلطة أياً كان هذا الموقف.

فعقلانية الموقف تعكس وطنية صاحبه، كما تعكس درجة عقلانية قراءة الواقع، فعقلانية قراءة الواقع هي من تمد المشاركين في بناء سورية الجديدة، وعلى جميع الصعد، بوضوح الرؤى والأهداف وتحديد الأدوات والوسائل اللازمة، أما من يصر على اتخاذ موقف تلقائي بدائي، إنما يصر على انفصاله عن الواقع، ولا مبالاته تجاه المصلحة الوطنية السورية، فالفرق بين منتقد رجال السلطة الحالية بسبب لحاهم، والمطالِب بتدخل دولي لحمايته، أو المطالب بنقل سورية من سورية التي نعرفها اليوم إلى مستوى سويسرا “بكبسة زر” يختلف حتماً عمّن يرى الواقع بمعطياته وشروطه وإمكانياته، وينتقد في الوقت ذاته السلطة بسبب قفزها فوق مؤتمر الحوار الوطني العام الحقيقي، ويضع ملاحظات نقدية على المؤسستين الأمنية والعسكرية، أو على موضوع الشفافية والتواصل ما بين السلطة والشارع السوري، أو على أهمية السرعة في محاسبة من ارتكب الانتهاكات، وغير ذلك الكثير.

وبعبارة أخرى: اعترافنا بالسلطة الحالية وانتقادنا لها يمثل مصلحة وطنية. عيوننا؛ عليها أن تكون على الدولة، الدولة السورية، وسبل الانتقال الآمن والسليم بها وبنا، نحن السوريين، من المرحلة الانتقالية المعقدة والخطيرة، إلى مرحلة الدولة الطبيعية، الآمنة والمستقرة. وعلينا أخيراً التيقن بأن أي تجييش لاوطني، صادر عن أي طرف، سواء أكان على مستوى الخطاب أو الممارسة سينتج عنه، في المآل، مشاريع تقسيمية، وأن هناك من يتربص للاستثمار في هذا كله. وعلينا جميعاً، نحن السوريين، ألّا نبتعد عن الخطاب الوطني الجامع مهما تعقّد المشهد أو شابه احتقان هنا أو انفعال هناك، وهذا ما أرى أن للسلطة الدور الأكبر في تطبيقه والأكثر قدرة على تحمل مسؤوليته، كيلا نصبح كمن يحفر قبره بيده.

آخر الأخبار
بدعم أردني – أميركي.. الخارجية تعلن خريطة طريق شاملة لإعادة الاستقرار إلى السويداء  "نحو إنتاج زراعي اقتصادي".. في ورشة عمل بحمص  زيارة ميدانية ودعم لاتحاد الشرطة الرياضي  سوق المدينة يعود إلى " ضهرة عواد " بحلب  "وجهتك الأكاديمية" في جامعة اللاذقية.. حضور طلابي لافت وفد سعودي في محافظة دمشق لبحث فرص الاستثمار بتخفيضات تصل إلى 50 بالمئة.. افتتاح معرض "العودة إلى المدارس " باللاذقية أردوغان: ملتزمون بدعم وحدة واستقرار سوريا  الذهب يواصل ارتفاعه محلياً وعالمياً والأونصة تسجل 42.550 مليون ليرة سوريا: مستعدون للتعاون مع "الطاقة الذرية" لمعالجة الملفات العالقة التأمين الصحي.. وعود على الورق ومعاناة على الأرض "تجارة ريف دمشق" تبحث مع شركة تركية توفير الأدوية البيطرية   قرار ينصف المكتتبين على مشاريع الإسكان مراقبون تموينيون جدد .. قريباً إلى الأسواق  جاليتنا في "ميشيغن" تبحث مع نائب أميركي الآثار الإنسانية للعقوبات  "الشيباني والصفدي وباراك" يعلِنون من دمشق خطة شاملة لإنهاء أزمة السويداء 4 آلاف طن  إنتاج القنيطرة من التين خطاب يناقش مع لجنة التحقيق بأحداث السويداء المعوقات والحلول هل تكون "المخدرات" ذريعة جديدة في صراع واشنطن وكراكاس ؟ لجنة لدراسة قطاع الأحذية والمنتجات الجلدية في حلب