الثورة- منذر عيد
شهدت سوريا واحدة من أقدم التجارب البرلمانية في العالم العربي، حين عرف السوريون الحياة النيابية قبل أكثر من قرن، ورغم هذا الإرث العريق، فإن الممارسة البرلمانية خلال العقود الأخيرة انحرفت عن مسارها الطبيعي، خاصة في ظل النظام السابق الذي حوّل مجلس الشعب إلى جهاز وظيفي يتبع للسلطة التنفيذية، يفتقر إلى الاستقلالية والتمثيل الحقيقي، ويقتصر دوره على تمرير القوانين التي تخدم استمرارية النظام، والتصفيق لخطابات السلطة التنفيذية.
مع بداية مرحلة التحوّل السياسي، يبرز مجلس الشعب القادم كاستحقاق مفصلي، لا من حيث التمثيل فقط، بل من حيث القدرة على إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين السلطة والمساءلة، إذ يأمل المواطن السوري من المجلس الجديد ألا يكون فقط أداء شكليا يرضي معايير الخارج، بل أداء جوهريا يعكس إرادة الداخل، أي إرادة الشعب الذي أنهكته الحرب والانقسامات، ويتطلّع الآن إلى عقد اجتماعي جديد ينهي عقودًا من التهميش والاستبداد.
وباتت القطيعة مع نماذج “المجالس الصورية” السابقة ضرورة ملحة، لا خيارا، فقد كانت تلك المجالس مجرد “هيئات دستورية شكلية”، بلا سلطة حقيقية أو دور رقابي، واليوم يعوّل السوريون على برلمان يمارس سلطته التشريعية والرقابية بكل استقلالية وشفافية، يعكس التعددية السياسية والفكرية، ويتصدى لأي تغوّل حكومي أو فساد مؤسسي.
لا يمكن الحديث عن بناء سوريا جديدة دون برلمان فاعل يعكس نبض الشارع، ويتفاعل مع قضاياه، ويساهم في رسم السياسات العامة لا مجرد المصادقة عليها، وفي هذا السياق، يصبح توسيع دائرة المشاركة السياسية، وتكريس مبادئ المحاسبة والشفافية، حجر الزاوية في نجاح التجربة النيابية المقبلة.
ثمة العديد من المهام بانتظار المجلس المرتقب تحقيقها، إذا ما أُريد له أن يكون فاعل مهام لجهة صياغة دستور دائم جديد لسوريا، يعكس التوازن بين السلطات ويضمن الحريات، وسنّ قوانين العدالة الانتقالية، والمصالحة، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، و وضع تشريعات اقتصادية واجتماعية تنهض بالدولة، وتضمن إعادة الإعمار، والعدالة في توزيع الثروات، وتعزيز المشاركة السياسية وإعادة دمج مختلف الفئات المهمشة في الحياة العامة.
رغم التطلعات الكبيرة، فإن الطريق أمام المجلس الجديد ليس مفروشا بالورود، ثمة تحديات بنيوية وسياسية ومجتمعية كثيرة، كما أن إعادة بناء سوريا بعد الحرب تحتاج إلى قوانين جديدة تُعيد هيكلة الدولة والاقتصاد والمجتمع، وهي مسؤولية تشريعية بالمقام الأول لا بد أن يتحمّلها المجلس القادم بكفاءة وجرأة.
إن مجلس الشعب السوري القادم سيُقاس نجاحه بقدر ما يكون ممثلاً حقيقيا للسوريين، لا امتدادا للسلطة أو انعكاسا لمصالح ضيقة، هو أمام فرصة تاريخية لإعادة الاعتبار لفكرة البرلمان كهيئة دستورية ديمقراطية، لا مجرد واجهة شكلية.
فالرهان اليوم ليس فقط على من سيُنتخب، بل على طبيعة الدور الذي سيمارسه هذا المجلس، ومدى استقلاليته، وقدرته على التشريع والمساءلة، والمساهمة في تحقيق طموحات السوريين في الحرية، والعدالة، والمساواة، وتعزيز دور القانون، حيث يتطلّع السوريون إلى مجلس يكون منبرا حقيقيًا لصوتهم، يضمن التعددية السياسية ويكرّس مبادئ الشفافية والمساءلة، ويضع حدا لنهج الاستئثار بالسلطة، وأن لا يكتفي مجلس نواب الشعب السوري برفع الأيدي، والتصويت كيفما كان، بل يرفع سقف التوقعات والعمل الجاد لتشريع قوانين تؤسس لسوريا جديدة، حرة وديمقراطية.
