سلطان الكنج – كاتب سوري
لم تكن الأمم التي نهضت من كبواتها التاريخية وحققت استقرارها وتقدمها إلا بتبنّي ثقافة النقد المنهجي، فالنقد الصادق والمبني على التحليل والوقائع لا يُعد خصومة، بل أداة للبناء والإصلاح.
فالدول لا تنهض بالخطاب الدعائي ولا بالولاءات الضيقة، وإنما بقدرتها على مواجهة الأخطاء ومراجعة السياسات بشجاعة وموضوعية.
إن النقد المنهجي هو بمثابة مرآة تعكس مكامن القوة والضعف، وهو الشرط الأساسي لأي نهضة حقيقية.
النقد في عصر الخلافة الراشدة
ولعل أبرز من جسّد ذلك الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان يطلب من المدنيين، ومن قادة دولته ومستشاريه، أن يشيروا إلى مواطن الخلل ويصححوا مواطن الزلل، وكان يردد دائمًا: “رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي”.
ولم يكن يقصد بذلك إلا النقد البنّاء، إذ به تُسد الثغرات وتُصلح الأخطاء.
وقد رويت عنه مواقف عديدة اعترض فيها مدنيون على بعض قراراته باعتبارهم أدرى بشؤونهم، كما حدث في قضية تحديد المهور حين وقفت امرأة لتقول إن القرار غير صائب، فعدل عنه فورًا.
النقد في ظل أنظمة الاستبداد
لكن حين تُبنى الدولة على الاستبداد، فإنها ترى في النقد الهادف دماراً لها، لأنها لم تعتد سماع الصوت المصحح الناقد، بل اعتادت أصوات التطبيل والتضخيم لكل قرار تتخذه.
ففي أنظمة مثل نظامي حافظ الأسد وصدام حسين، كان أي نقد يُعد جريمة تودي بصاحبها إلى السجن وربما الإعدام، وتكال له التهم الجاهزة من قبيل: أنه يريد عودة الاستعمار، أو يسعى إلى النيل من “انتصارات الحزب”، أو يفتح باباً أمام “المخرّبين”.
أما الدول الساعية إلى البناء، فإنها تحتفي بالناقد المشفق أكثر مما تُعلي شأن المتملق الانتهازي.
ومع ذلك، فإن الحجة التي طالما أُسكتت بها الأصوات الناقدة في عصور الاستبداد كانت: “ليس وقته، فهذا مدخل للأعداء”. غير أن هذه العقلية في حقيقتها مجرد وسيلة غبية لتكميم الأفواه، إذ إن إسكات النقد والاكتفاء بالمديح الباذخ لا يؤدي إلا إلى تفاقم المشكلات، وتحويلها مع الوقت إلى أزمات خانقة.
يشبه ذلك مريضاً يخشى إجراء الفحوصات، فيوهم نفسه بأنه سليم، بينما يزداد المرض تفشياً حتى يصبح علاجه في المراحل المتأخرة مستحيلاً ومميتاً.
إن النقد يكشف المشكلات إلى السطح، فيتيح التعامل معها بجدية قبل أن تتحول إلى كوارث.
فهي نار تحت رماد، لا بد أن تشتعل يوماً ولو بريح خفيفة.
والمقصود بالنقد ليس التربّص بالهفوات وتضخيمها لتحقيق أغراض شخصية أو سياسية، بل تقويم السياسات وتصحيح المسار. واليوم، مثلًا، تواجه الدولة السورية خصوماً يتتبعون الهفوات لينفذوا منها، لكن خطأ البعض أنهم يظنون أن منع النقد يُفشل تلك المخططات، بينما الحقيقة أن غياب النقد هو أكبر معين لها.
والأخطر أن يُنظر إلى النقد باعتباره أمراً واحداً يجب قمعه لأن الخصوم يستفيدون منه، فهذه عقلية لا تختلف كثيراً عن عقلية حزب البعث، الذي كان يمنع حتى الصحفي من كتابة تقرير عن خلل في شبكة صرف صحي في بلدة نائية، بحجة أن ذلك يشوّه صورة الدولة ويستغله الأعداء.
هذه العقلية دمّرت الأوطان
ففي الثمانينيات، كانت أجهزة إعلام البعث في سوريا والعراق تعرض صورة مثالية عن أوضاع البلدين، تزعم أن التنمية شاملة والمشكلات معدومة، بينما الحقيقة أن الأزمات كانت تتراكم بصمت، حتى وصلت إلى كوارث أطاحت ببلدين مهمين مثل سوريا والعراق، فقط لأن الأنظمة لم تجرؤ على مواجهة الواقع وطرح أخطائها في العلن.
الفرق بين النقد الهدّام والنقد المنهجي
كثيرون يخلطون بين النقد الهدّام والنقد المنهجي.
الأول لا يتجاوز كونه تشهيراً وشحناً للنفوس، يقوم على الهجوم الشخصي وإثارة الأحقاد، ويكون صاحبه لديه موقف مسبق، فلا يقدم بدائل ولا يفتح باباً للحوار.
أما النقد المنهجي، فيعتمد على الأدلة والتحليل العلمي، ويقترح حلولاً عملية لتجاوز الأخطاء.
ومن خلاله تستطيع الدول أن تتعلم من تجاربها وتصلح مؤسساتها.
على سبيل المثال، استطاعت بعض الدول الخارجة من الحروب الأهلية أن تحقق الاستقرار، لأنها أنشأت لجان تقويم مستقلة لمراجعة السياسات وتقديم توصيات عملية.
النقد المنهجي في بناء المؤسسات
المؤسسات هي العمود الفقري للدولة، ولا يمكن لمؤسسة أن تستقيم ما لم تخضع لمراجعة نقدية منهجية تكشف ثغرات التشريع، وأوجه الفساد الإداري، ومواطن ضعف الشفافية.
ولعل التجربة الألمانية خير دليل، حيث جعلت المراجعة الدورية لعمل المؤسسات جزءاً من ثقافتها السياسية، ما ضمن كفاءة الإدارة وجودة القرارات.
كما أن سنغافورة، التي تحولت من دولة نامية إلى نموذج عالمي، اعتمدت بشكل أساسي على النقد المؤسسي الذي قاد إلى إصلاح التعليم والاقتصاد والإدارة العامة.
دور النخب والمجتمع المدني
النقد المنهجي لا يقتصر على الحكومات وحدها، بل هو مسؤولية تشاركية. فالجامعات ومراكز الأبحاث والإعلام ومنظمات المجتمع المدني تشكل قنوات حيوية لممارسة النقد المسؤول. هذه الأطراف قادرة على رصد الخلل، وطرح البدائل، وإشراك المواطنين في رسم السياسات. التجربة في أوروبا الشرقية بعد انهيار الأنظمة الشمولية مثال واضح، فالمجتمع المدني لعب دورا جوهريا في مراقبة السلطات الناشئة، وضمان عدم عودة العقلية السابقة، مستندا إلى النقد الموضوعي المبني على معايير الشفافية.
النقد والنهضة الاقتصادية
لا يمكن لاقتصاد أن ينهض أو يستقر من دون عملية تقويم متواصلة للسياسات الاقتصادية. التجربة الكورية الجنوبية مثال حي: بعد الأزمات المالية في التسعينيات، مارست الدولة والنخب الاقتصادية نقدا علميا صارما للخيارات السابقة، ما قاد إلى إصلاحات هيكلية جعلت كوريا اليوم قوة اقتصادية بارزة. وعلى النقيض، فإن دولا تجاهلت النقد واستمرت في سياسات فاشلة غرقت في أزمات اقتصادية متتالية، بل وفقدت القدرة على حماية عملتها وأسواقها الداخلية. إن النقد ليس ترفا فكريا ولا تمرينا نظريا، بل هو شرط وجودي لبقاء الدول واستمرارها. فالدولة التي تفتح أبوابها للنقد المشفق، تحتفل بالمصلحين أكثر من المتملقين الانتهازيين، وتضمن لنفسها مستقبلا مستداما. أما الدولة التي تغلق منافذ النقد وتستبدلها بالتطبيل، فهي كالمريض الذي يخشى مواجهة مرضه فيوهم نفسه بأنه سليم، حتى يستفحل الداء ويصبح العلاج مستحيلا. وعليه، فإن تبنّي ثقافة النقد المسؤول هو السبيل الأضمن لبناء دول راسخة لا تهزها الأزمات.