الثورة – فؤاد مسعد:
أتيح للجمهور السوري في عدة محافظات مشاهدة الفيلم الوثائقي “إلى سما” “FOR SAMA” إخراج وعد الخطيب وتعاونت فيه مع المخرج إدوارد واتس، إنتاج عام 2019، والذي يعتبر وثيقة عما جرى في حلب بين عامي “2012 – 2016″، حيث استغرق تصويره خمس سنوات، وتمت عمليات تصوير أغلبية مشاهده من المسافة صفر.
المسافة صفر، لأن الكاميرا كانت حاضرة في خضم الأحداث وفي الكثير من الأماكن توثق لحظة بلحظة، تلتقط تفاصيل تلقائية ستصبح فيما بعد شاهداً على واقع وحياة، لم تقف المخرجة عند توثيق الحدث بل وثقت روح الناس وأحاسيسهم بحزنها وألمها ومصائبها، وأحياناً في لحظات فرح مسروقة كحال لعب الأطفال بحافلة محروقة، وزواج مخرجة الفيلم من الطبيب حمزة الخطيب بأجواء بسيطة غلب فيها صوت الموسيقا على صوت القذائف، وفي مرحلة لاحقة ولادة ابنتهما سما.
سعت الكاميرا إلى توثيق لحظات مُشبعة بالإنسانية، وأهم الأماكن التي صوّرت فيها من المسافة صفر المستشفى التي كانت مركزاً للكثير من الأوجاع والآلام كما كانت مركزاً تشع منه الحياة، فتارةً نرصد قصفها، وتارة ثانية محاولة إيجاد البديل المناسب لها وتجهزه بما تيسّر، تارةً نتابع حالة طفل مُصاب استشهد رغم كل محاولات إنقاذه وكيف تلقى أخواه الخبر، وفي مكان ثانٍ أم ثكلى تحمل فلذة كبدها وهي تصرخ وتلطم، وهي المستشفى ذاتها التي تابعنا فيها العلاقة الوطيدة بين أفرادها، وصدمتهم من استشهاد زميل لهم.
تميّز الفيلم بتقديمه رؤية قريبة من الناس ما جعل المشاهد يشعر بتفاعل شخصي معه، وقد شكّلت “سما” المحور الأساسي فيه، فالمخرجة كانت الراوي، حيث تقص الأحداث لابنتها سما، الأمر الذي ظهر منذ البداية عندما خاطبتها قائلة: “سما عملت هذا الفيلم مشانك، بدي تفهمي ليش أنا وأبوكي أخذنا هذه الخيارات”، وفي مكان آخر تقول: “قاتلنا مشان أهم شي بالدنيا، مشان ما تعيشوا يلي عشناه”، مؤكدة أن “أكثر ما يخيفها خسارة ابنتها”، وبذلك تمازج الخاص والشخصي مع العام، لتقديم تجربة حياتية من رحم الحرب والألم.
لم يأتِ التعاطي مع الزمن وفق تسلسل نمطي، وإنما بإطار يخدم حالة جذب المشاهد، فعلى سبيل المثال تم بداية الانتقال من عام 2016 إلى نيسان 2012 حين صورت طلاب الجامعة وهم يرسمون على جدران جامعتهم علم الثورة وكيف كانت مظاهراتهم ضد الظلم، وتحكي لابنتها عن ديكتاتورية حكم الأسد، وكيف أن البلد كان غارقاً بالظلم والفساد والقمع، ورأت أن تصوير ما يجري كان الوسيلة الوحيدة ليظهروا للعالم أنهم يقاتلون من أجل الحرية.
وفي كانون ثاني 2013 صورت مجزرة النهر في حلب والذي وجدوا فيه جثثاً لأشخاص كانوا مكبلين وأغلبهم قتل بطلقة في الرأس، الأمر الذي رأت فيه رسالة للثوار، وفي هذه المشاهد المؤثرة كانت تركز أيضاً على أهمية العمل التطوعي الأهلي.
دأبت وعد الخطيب على ذكر التاريخ بالتفصيل لدى تصويرها الفيديوهات، لربط الحدث بالزمن، وفي آذار 2015 توثق “حلب المحررة” وحملها بسما ومن ثم الولادة، وفي تشرين أول 2016، وتتابع تصويرها ما يجري من أحداث، إذ نرى إسعاف امرأة حامل اضطروا في المستشفى لإجراء عملية قيصرية لها، ومحاولة إنعاش ابنها الرضيع التي تكللت بالنجاح حين تنفس أخيراً وبكى معلناً أنه على قيد الحياة، كانت معجزة أن الأم وابنها بقيا على قيد الحياة، الأمر الذي أمدّهم بالقوة.
رصدت استهداف المستشفى وتدميره، قائلة: إن ذلك “يكسر الروح المعنوية للنفس”، مشيرة إلى أنها تصور رغم عدم تحملها ما ترى من مآسٍ ومجازر، وحينها لم يبقَ إلا مستشفى واحد وهو الذي يديره زوجها.
وسعت كاميرتها لإظهار حال الناس وسط الحصار، وصولاً إلى شهر كانون أول 2016 عندما قاموا بتوديع المستشفى، فقد بدأ التهجير.
يعتبر “إلى سما” شهادة حيّة ولدت وسط الألم ومن عمق الروح على مر سنوات كانت فيها المخرجة في خضم الحدث، عاشته بجوارحها ووثقته بكاميرتها، ليكون أشبه بصرخة مدوّية.
حصد فيلم “إلى سما” العديد من الجوائز الهامة، منها جائزة الأكاديمية البريطانية للأفلام “بافتا” كأفضل فيلم وثائقي، ورُشّح لثلاث جوائز أخرى، كما رُشّح لجائزة الأوسكار الأميركية لأفضل فيلم وثائقي، وحصد جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان كان السينمائي.