د. عبد القادر المنلا
عضو هيئة التدريس ورئيس قسم الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية سابقاً..
قبل سقوط النظام، كان من المعروف عن عميد المعهد العالي للفنون المسرحية وقتها كونه صاحب مطعم أكثر من كونه مسرحياً رغم حصوله على الدكتوراه من روسيا حيث كان واحداً من ضمن بعض الطلبة الذين تم إيفادهم إلى الاتحاد السوفييتي من قبل القيادة القطرية في تسعينيات القرن الماضي.
ورغم إشرافه على الطلبة وإخراجه للعديد من العروض، بقيت إنجازات العميد المذكور في مجال المطاعم أهم بكثير من إنجازاته المسرحية..
وإذا أردنا توضيح الصورة أكثر لا بد من القول إن العميد كان يدير مطعمه الكائن في منطقة جرمانا من مكتبه من المعهد، حيث سخّره كمكتب تجاري تجري من خلاله مقاولات البضائع، ونادراً ما كانت المصطلحات المسرحية تتردد في مكتبه، فبدلاً من سيطرة المفردات والمصطلحات الاعتيادية التي تتردد في المعاهد المسرحية بشكل عام مثل ستانسلافسكي، ماير خولد، الميزانسين، البحث، الخطة الإخراجية، الذاكرة الانفعالية للمثل، المسرح التجريبي، الخ، كانت مفردات مثل البقدونس والخيار والبندورة والبطاطا، هي الأكثر استخداماً في مكتب العميد.
بدأت القصة منذ العام ٢٠٠٤، حين استلم صاحب المطعم حينها رئاسة قسم التمثيل بضغط من القيادة القطرية، حيث دأب العميد/ مدير المطعم على زيارة مكاتب أعضاء القيادة القطرية بدعم من أحد أقربائه ومن شعبة الحزب (حزب البعث طبعاً) الذي كان ينتمي شخصياً إليه كعضو عامل إلى جانب عمله في المعهد والمطعم.
جاء تعيين المذكور رئيساً لقسم التمثيل حينها بعد استبعاده من المعهد لسنوات طويلة بسبب عدم أهليته ليكون ضمن الهيئة التدريسية، ولكن شعبة الحزب قالت كلمتها حينها والتي كانت أقوى من كلمة المعهد، وتم تسليم الرجل منصب رئيس القسم..
ومنذ اليوم الأول الذي جلس فيه المذكور على مكتب قسم التمثيل، لاحظنا -نحن زملاءه- ابتعاده التام عن أمور القسم واهتمامه بشأن آخر مختلف تماماً، حيث كان يأتي في الصباح الباكر ويبدأ بإجراء مكالمات هاتفية حتى نهاية الدوام عن طريق هاتف المعهد لا هاتفه الشخصي، ومنذ ذلك الحين تعرفنا -نحن زملاءه من رؤساء الأقسام حيث كنا نتشارك غرفة واحدة فيها أربعة مكاتب-، تعرفنا على تلك المفردات الخاصة بالطبيخ، مفردات الخضار والحشائش وأنواع الزيوت والتوابل وكميات الغاز المستخدمة أو التي يجب أن تستخدم وكل ما يتعلق بتجهيز الطلبات وتوصيلها بساعات محددة، كان معجماً متكاملاً خاصاً بآلية عمل المطاعم يتم سماعه كل يوم في غرفة رؤساء الأقسام، وبسبب زحمة عمل المطعم كان هاتف غرفة رؤساء الأقسام مشغولاً باستمرار ولا يمنح الفرصة للمدرسين والإداريين بإجراء مكالمات تخص العمل أو استقبال مكالمات خاصة بالمعهد إلا من خلال هواتفهم الخاصة، فضلاً عن ارتفاع قيمة فاتورة الهاتف حينها إلى أضعاف بسبب مدة المكالمات التي يجريها مدير المطعم/رئيس قسم التمثيل، والتي لم تكن فقط مكالمات محلية بل شملت المحافظات أيضاً، حيث كانت البضائع تأتي من عدة محافظات لتمويل المطعم بالمواد الأرخص حسب العرض والطلب في سوق المطاعم..
كنت شاهداً على ذلك كله قبل أن أعرف ما الذي يفعله رئيس القسم، أخبرني فايز قزق حينها بقصة المطعم الذي يمتلكه رئيس قسم التمثيل سابقاً والعميد لاحقاً ويديره من مكتبه في المعهد، وهنا تمكنت من حل اللغز ومعرفة العلاقة الوطيدة بين رئاسة قسم التمثيل ومفردات المطبخ، وسر تعطيلنا عن عملنا إذا ما احتجنا لإجراء مكالمة أو استقبال مكالمة تخص المعهد وطلبته..
وحينما عرف السبب بطل العجب، وكان علينا أن نقدم شكوى لعميد المعهد حينها (د. سامر عمران)، واتضح أنه على معرفة بالأمر، وأسرّ لنا حينها بأنه -أي صاحب المطعم- جاء بوساطة قوية من القيادة القطْرية، وأنه -أي العميد- يعمل على عزله رغم صعوبة ذلك، ولكنه قام بإجراء نغّص على صاحب المطعم استفادته من رئاسة القسم قليلاً حينما ألغى العميد صفر المحافظات، وكان ذلك بمثابة الكارثة التي ألمت برئيس قسم التمثيل/مدير المطعم..
نجحت محاولات العميد حينها بإنهاء تكليف صاحب المطعم كرئيس للقسم، ولكن الأخير استطاع العودة مرة أخرى كعميد بعد سنوات من انطلاق الثورة من بوابة الولاء وحده والتعامل المباشر مع “الجهات المختصة” والذي كان المقياس الأساسي للتعيينات والمناصب في المعهد وغيره، ولا سيما في سنوات الثورة.
وسع العميد/مدير المطعم دائرة امتيازاته وافتتح في المعهد فرعاً للمجوهرات وكان يشترط أن يتقاضى رشوته بالليرات الذهبية، وكان بعض الأساتذة -ممن يحتجون اليوم ضد مخالفة قانون المعهد- يعملون كسماسرة للعميد في طلب الليرات الذهبية، ورغم معرفة “أساتذة” المعهد -الثائرين حالياً ضد قرار تعيين عميد جديد للمعهد- بكل ما كان يقوم به العميد القديم رغم معرفتهم بكل ذلك فإنهم لم يقوموا بأي نشاط للمطالبة بإقالة العميد الفاسد إلا بعد سقوط نظام الأسد،
على الرغم أن الاحتجاج على
عميد المعهد في زمن الأسد لم يكن صعباً أو مثيراً للشبهات ولم يكن يشكل خطراً باعتباره احتجاجاً على شخصية هامشية بالنسبة لنظام الأسد.
اليوم فقط يعترض الأساتذة بحرية ويهددون بتقديم استقالاتهم إن لم تتم الاستجابة لمطالبهم، ويعاملون أي اعتراض على سلوكهم على أنه عقاب على صمتهم في الماضي.
ويتخفون وراء يقينهم المطلق بأن التعيينات الجديدة هي مجرد مكافآت لمن وقفوا مع الثورة، وأن الثأر السياسي هو الأساس في التعامل مع هذه الحالة من تسخيف المحتجين ومحاولات إقصائهم، ويرفضون الرأي الآخر بينما يدافعون عن حقهم في الاستماع لآرائهم.
وإذا أردتم دليلاً حاسماً على أن وجعهم الأساسي لا يتعلق بخرق قانون المعهد بل بالخوف على مصالحهم، فإليكموه: منذ شهرين انتشر خبر تعيين أحد خريجي المعهد من الحاصلين على درجة الدكتوراه والذي كان عضواً في الهيئة التدريسية وعمل في الإدارة وهو أيضاً على ملاك المعهد ولا يوجد أي خرق للقانون في تعيينه، ومع ذلك فقد جهز ذات الأساتذة والطلبة حملة كبيرة لعرقلة قرار التعيين الذي لم يكن سوى اقتراح، واتفقوا على رفض هذا التعيين إن تم وبذات الشراسة التي يرفضون من خلالها قرار تعيين العميد الجديد، مما يعني أن رفضهم مبني على أسباب أخرى تختلف تماماً عما يعلنونه ولا علاقة لها بقضية مخالفة القوانين واللوائح..
ثمة الكثير من الملفات التي آن أوان فتحها فيما يتعلق بقضية المعهد العالي للفنون المسرحية والمعاهد الموازية له، لأن هذه المؤسسات الثقافية ذات ثقل كبير في تشكيل الوعي السوري الجديد، وأي تهاون في التعامل مع هذه المؤسسات سيكون له انعكاس خطير على البنية الذهنية للسوريين والتي تساهم هذه المعاهد في تشكيلها، فإما أن تنجح في تعميق الوعي الوطني والإنساني، أو تذهب للتأصيل لثقافة المصالح الخاصة والضيقة ومفاهيم الانتهازية وصولاً إلى تأصيل أعراف المافيا، وهو الأمر الذي يجب تجنبه بكل السبل..
للحديث صلة..