“الأدب” كقوة اجتماعية.. كيف صنع كتّاب أثرهم في الواقع؟

الثورة – سعاد زاهر:

هناك كلمات تموت حين تُقال، وأخرى تبدأ حياتها لحظة أن تجد من ينطقها، في المدن العربية، بين المقاهي الصاخبة والمكتبات المهجورة، عاش كتّاب حملوا قلق الناس وأسئلتهم في جيوبهم، وكتبوا بمداد يمزج الحبر بالعرق والدمع، لم يكتفوا أن يكونوا رواة، بل صاروا شهوداً وفاعلين، ينقلون نبض الشارع إلى الورق، ويعيدون من الورق شرارة تعود إلى الشارع، هؤلاء هم الذين جعلوا من الأدب جسراً بين الوعي والفعل، بين الحلم والواقع.

المثقف العربي بين السرد والفعل

كان الأدب في مراحله المختلفة مرآةً صادقة تعكس مشكلات الإنسان العربي وتطلعاته، لكن دوره لم يتوقف عند حدود السرد أو الوصف، فقد تحول الأدب إلى قوة اجتماعية حقيقية، يقرؤه الناس في منازلهم وفي المقاهي، يتناقشون حوله، وربما يخرجون يحملون شعاراته إلى الشارع، في مشهد حيوي يجسد التحول من الكلمة المكتوبة إلى الفعل الملموس.

في هذه الرحلة، برز كتّاب أحرار امتلكوا الجرأة على مواجهة الواقع المأزوم، واستثمروا أدواتهم الأدبية ليتحولوا إلى أصوات لا تُمحى.

بين هؤلاء نرى علاء الأسواني، الذي أضاء عبر رواياته على قضايا الفساد الاجتماعي والسياسي.. وسهيل إدريس الذي جمع بين الإبداع الأدبي والعمل الفكري المؤسسي.. وفاطمة المرنيسي التي كسرت حواجز البحث الأكاديمي لتقرب قضايا المرأة والسلطة من المجتمع.

التشريح الاجتماعي بلغة الرواية

علاء الأسواني هو نموذج بارز للكاتب الذي يملك قدرة فريدة على دمج السرد الفني مع النقد الاجتماعي العميق، جاءت روايته “عمارة يعقوبيان” كمرآة ضخمة تضع المجتمع المصري أمام نفسه، من خلال سرد حياة سكان مبنى عتيق في قلب القاهرة، لم تكن الرواية مجرد قصص شخصية، بل سردٌ لبانوراما معقدة من الطبقات الاجتماعية، الانتهازية، الفساد السياسي، والصراعات القيمية.

أثرت الرواية بشكل كبير في الشارع المصري والعربي، وأثارت جدلاً واسعاً حول الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية، حيث تناولت مواضيع مثل الفساد الإداري، العلاقات الجنسية المظللة، والصراعات الطبقية بأسلوب مباشر لكنه جذاب.

أما روايته “جمهورية كأن”، فقد كانت قفزة نوعية نحو الكتابة السياسية الصريحة، إذ استعرضت نظام القمع والرقابة، وعرضت الديكتاتورية بلغة روائية تحاكي الوثيقة السياسية، لكنها ظلت تحمل مشاعر إنسانية عميقة.

استطاعت أعمال الأسواني أن تخلق حالة وعي جماهيري، وأصبحت جزءاً من حوارات نقدية في الأوساط الثقافية والسياسية، وهو مثال حي على كيف يمكن للأدب أن يكون أداة للتغيير.

من الحي اللاتيني إلى الحي العربي

كان سهيل إدريس أكثر من مجرد كاتب، فهو مؤسس منصة فكرية وثقافية تعد من أهم نقاط التحول في المشهد الأدبي العربي الحديث، وهي مجلة “الآداب” في بيروت، جاءت روايته “الحي اللاتيني” مستلهمة من تجربته الشخصية في باريس، لتطرح قضايا الهوية والاغتراب التي يعاني منها المثقف العربي في مواجهة الثقافة الغربية، الرواية ليست مجرد سرد ذاتي، بل دراسة عميقة للغربة النفسية والبحث عن الذات.

لكن تأثير إدريس الحقيقي كان أكبر عبر “الآداب”، التي شكلت منبراً حيوياً يجمع تيارات فكرية وأدبية من مختلف أرجاء الوطن العربي، ويناقش قضايا الحرية، الاستقلال، والعدالة الاجتماعية.

المجلة استضافت نصوصاً وبيانات جريئة ضد الاستعمار والظلم، فكانت صوتاً جريئاً للمثقف العربي، ومثالاً على كيف يمكن للأدب والفكر أن يلتقيا ليشكّلا فعلاً اجتماعياً.

كسر الحواجز بين البحث والمجتمع

المفكرة المغربية فاطمة المرنيسي تعد حالة استثنائية في الأدب العربي المعاصر، لأنها لم تكتفِ بالكتابة الأكاديمية الجافة، بل صممت أن تخلق جسوراً بين المعرفة العلمية وواقع الناس العاديين. كتابها “الحريم السياسي” هو واحد من أشهر أعمالها، حيث تناولت فيه موضوعات السلطة والمرأة بأسلوب نقدي وجريء، واستندت إلى بحوث ميدانية ومقابلات مباشرة مع نساء مغربيات من مختلف الطبقات الاجتماعية.

في هذا الكتاب، لم تكن المرنيسي تكتب عن المرأة كفكرة مجردة، بل كشخصية تعيش، تعاني، تناضل، تميز أسلوبها بدمج الدقة العلمية مع لغة سردية سلسة، مما جعل أفكارها تصل إلى جمهور واسع من القراء، كما في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، استعرضت فيه قصص نساء مغربيات يواجهن تحديات اجتماعية وثقافية معقدة، وهو عمل تجسد فيه صوت المستضعفات والمهمشات.

كان تأثير المرنيسي واضحاً في الحقل الاجتماعي والسياسي، فقد ساعدت كتاباتها في دفع نقاشات مهمة حول حقوق المرأة والحريات العامة في المجتمع العربي، وأثرت بشكل مباشر في الحركة النسائية والنقاشات الفكرية.

أدوات للتحول الاجتماعي

من خلال تتبع تجارب هؤلاء الكتّاب، نرى أن المثقف العربي الحقيقي ليس فقط من يكتب نصوصاً أدبية جيدة، بل من يمتلك ثلاث أدوات مهمة تجعله قوة للتغيير.. معرفة عميقة بالواقع، فهم التحديات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها مجتمعه، بحيث لا تكون كتاباته مجرد تخيلات أو قصص بعيدة عن الواقع، بل تحكي حياة الناس الحقيقية.

لغة تصل إلى الجمهور، تبسيط الأفكار المعقدة بأسلوب جذاب وسلس، يجعل النصوص الأدبية والفكرية في متناول القراء من مختلف الطبقات، ويشعرون أنهم جزء من هذه الحكايات.

إرادة تحويل الكلمة إلى فعل، المثقف الحقيقي لا يكتفي بطرح الأفكار، بل يحركها نحو الفعل، يحفز النقاش العام، يشارك في الحوارات، ويخلق من النصوص جسراً يصل إلى الشارع والسياسة.

هذه الأدوات تجعل المثقف شخصية فاعلة، وليست مجرد راوٍ للحكايات. وعلاء الأسواني، سهيل إدريس، وفاطمة المرنيسي قدموا نموذجاً ملموساً لذلك، إذ جعلوا من الأدب والكتابة أدوات للكشف، التوعية، والتغيير.

الكلمة التي تصنع التاريخ

الحكاية التي بدأت على صفحات الكتب أحياناً تصبح شرارة تتوهج في الشوارع، تغير وعي الشعوب وتعيد رسم خريطة القوى السياسية والاجتماعية، لأدب بهذا المعنى لا يُعَدُّ ترفاً فكرياً، بل ضرورة حيوية للمجتمع، كونه يشكل مساحة للتحرر، والاحتجاج، والذاكرة التي تحفظ القصص التي يحاول القمع محوها.

لقد شهدت عدة ثورات عربية في العقدين الماضيين كيف لعب الأدب والفكر دوراً مركزياً في تأجيج الحركات الاجتماعية، وتحريك الجماهير، وتوفير رؤى نقدية بديلة، من مصر إلى لبنان، ومن المغرب إلى سوريا، كانت النصوص الأدبية والفكرية، وخاصة تلك التي تحمل صوت المثقفين الذين يعيشون واقع الناس، نبراساً يُضيء الطريق إلى التغيير.

آخر الأخبار
من إرث النظام البائد.. سياسة الإقراض تعاني من ترهلات ارتفاع سعر الصرف يحد من قدرة المواطن الشرائية انتخابات مجلس الشعب القادم.. بين واجبات الدولة والمواطنين تفعيل خدمة منح السجل العدلي في درعا إدلب تطلق حملة "الوفاء لإدلب" لتأمين احتياجات إنسانية وخدمية افتتاح مدارس جديدة في سراقب ومعرة النعمان "وادي العرايس".. تسع سنوات بلا كهرباء ولا تغيير في الواقع حتى الآن! "التوليد الجامعي" في حلب.. من ركام الحرب إلى أمل الإنجاب "غذاء وأمل".. تستهدف العائلات الأكثر حاجة في دمشق خطر "السعرين" يهدد المنافسة.. إصلاحات جمركية تحد 80 بالمئة من الفساد الدوام المسائي في المدارس الخاصة.. خطوة بين الحاجة والجدل لقاء موسع في دمشق لبحث الحلول لمشكلات المياه والكهرباء حمص تعاني شحّاً في المياه.. وإجراءات لتعويض النقص ريادة الأعمال.. بين التمكين النفسي وإعادة تشكيل المجتمع تزويد مستشفى طفس الوطني بأجهزة غسيل كلى دعماً للنشاطات الشبابية.. ماراثون شبايي في حماة ومصياف دور وسائل الإعلام في تنمية الوعي الصحي "الدعم الحكومي".. بوابة للفساد أم أداة للتنمية؟ أرقام صادمة عن حجم السرقات من رقاب الناس مادة قانونية في "الجريمة الإلكترونية".. غيبت الكثير من السوريين قسراً حملة رقابية في حلب تكشف عن معلبات حُمُّص منتهية الصلاحية