الثورة – حسين روماني:
يعيش المشهد الثقافي العربي اليوم لحظة مفصلية مع تسارع الرقمنة وتغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية، فالمكتبات الإلكترونية، ومنصات البث، ووسائط التواصل لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل صارت هي الحاضن الأساسي للمنتج الثقافي ومجاله الأول للتداول، غير أن هذا التحول، على أهميته، يطرح سؤالاً مقلقاً: هل تؤدي الرقمنة إلى توسيع أفق الثقافة العربية وتعزيز حضورها، أم إلى تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى مجرد سلعة سريعة الاستهلاك؟
من منظور أول، تبدو الرقمنة وكأنها كسرت احتكار المؤسسات الرسمية والنخب التقليدية، صارت الأصوات الشبابية قادرة على النشر والظهور خارج الأطر المألوفة، وفتحت أمام القراء فرصاً للوصول إلى محتوى متنوع، بلهجات وأساليب وأشكال لم يكن لها مكان في القنوات القديمة، هذا الانفتاح أضاف ديناميكية للمشهد الثقافي، وأعاد تعريف العلاقة بين الكاتب والقارئ، وبين الفنان وجمهوره.
لكن الوجه الآخر للصورة أكثر تعقيداً، فمع تدفق المحتوى الهائل وسرعة انتشاره، تراجعت معايير الجودة النقدية، وحلّت مكانها معايير “اللايك” و”المشاركة”، هنا يصبح المنتج الثقافي محكوماً بإيقاع السوق والخوارزميات، لا بعمق الفكرة أو جماليات الإبداع، إن ثقافة اللحظة هذه قد تفتح الباب أمام فقدان الذاكرة الجمعية، إذ يختفي النص أو العمل بمجرد أن ينطفئ بريقه الافتراضي.
الباحث والمفكر ماجد شمس يلتقط هذه الإشكالية بوضوح، ويرى أن الرقمنة ليست عدواً للثقافة العربية، بل مرآة تكشف استعدادها للتجدد أو عجزها عن ذلك. لكنه يحذّر من خطورة الارتهان الكامل لسطحية المنصات: “الخطر لا يكمن في الأداة نفسها، بل في طريقة استخدامها. إذا تعاملنا مع الرقمنة باعتبارها مجرد وسيلة للانتشار السريع، سنفقد القدرة على إنتاج معرفة راسخة، أما إذا استثمرناها في صياغة خطاب نقدي تفاعلي، فإنها قد تتحول إلى فرصة لإحياء دور الثقافة في مساءلة الواقع وصناعة المستقبل.
ولفت إلى أن هذا التحذير يعيد النقاش إلى جوهر المسألة: كيف يمكن للمثقفين العرب أن يحافظوا على استقلالية خطابهم، في وقت تتحكم فيه الخوارزميات بآليات التلقي، وتفرض منطقها التجاري على النصوص والأفكار؟ الإجابة لا تكمن في الانكفاء على الماضي أو رفض الرقمنة، بل في خوض المعركة داخل فضائها نفسه، بتجارب مبتكرة ومشاريع نقدية تعيد للثقافة وظيفتها الأساسية بوصفها فعلاً يقاوم النسيان ويعيد ترتيب الوعي.
إن الرهان اليوم ليس على المنصة بقدر ما هو على المحتوى، وعلى قدرة المثقفين على تحويل الرقمي من ساحة استهلاك عابر إلى ساحة إنتاج حي، إغراءات الرقمنة كبيرة، لكن الأسئلة التي تطرحها أكبر، والأساسي فيها، هل تستطيع الثقافة العربية أن تُعيد تعريف ذاتها وسط هذا الطوفان الرقمي؟