دمشق – علي إسماعيل:
في توقيت مهم ومفصلي من تاريخ سوريا يطل الرئيس أحمد الشرع في حديثه الأخير لقناة الإخبارية السورية، ليضع النقاط على الحروف في مسار إعادة بناء الدولة، ورسم ملامح خارطة الطريق السياسي التي تشكل الانتخابات التشريعية 2025 ركيزة أساسية فيها.
حديث الرئيس الشرع كان واضحاً، وبعيداً عن التعقيد، في مرحلة انتقالية تتطلب دقة متناهية في كل خطوة.
استحقاق دستوري يتمثل بمجلس الشعب المؤقت، الذي يُعد اللَبِنة الأولى والواقعية التي تقتضيها المرحلة لإنهاء حالة الفراغ التشريعي عقب إسقاط النظام البائد في ديسمبر 2024، وكذلك ليرتقي المشهد السياسي من الحالة الإجرائية إلى مفهومٍ أعمق في تطبيق تجربة واعية لحماية العملية الانتقالية قانونياً، وإعادة الحياة إلى المجلس النيابي السوري الذي لطالما كان محط أنظار كل السوريين، وهو ضرورة حتمية يعكس مرحلة انتقالية لا دائمة، يعبّر عن دقة المرحلة الحساسة التي تمر بها سوريا.
إن إدراك القيادة السياسية وعلى رأسها الرئيس الشرع لحجم التحديات الوطنية التي فرضتها الوقائع الميدانية وتعقيداتها، والتي تحول دون إجراء انتخابات شاملة أفضت إلى إيجاد صيغة سياسية انتخابية، بإجراءات عملية تناسب المرحلة ومقبولة عند معظم فئات الشعب، وتمتلك المرونة العالية للتعديل من خلال الصلاحيات الواسعة الممنوحة للجنة الوطنية العليا للانتخابات.
وهنا لابد من توضيح هذه التحديات التي تواجه الانتخابات، أولها أن أجزاءً كبيرة من الجغرافية السورية خارج سيطرة الدولة، ما يصعب توحيد البيئة الانتخابية، إضافة إلى عمليات الإحصاء السكانية، وصعوبة التنفيذ الدقيق لها، وخاصة أن عدد السوريين في الخارج والنازحين داخلياً، يقدر بحسب تقارير أممية بأكثر من ثلث السكان، وهو أمر يفرض عقبات إضافية فنية ولوجستية وقانونية.
كل ذلك دفع الحكومة السورية إلى الذهاب إلى خيار مجلس الشعب المؤقت كحل مقبول و عملي، ينشط الحياة السياسية ويضمن استمراريتها ولو بالحد الأدنى، ويوضح الخطوات المتتابعة ضمن سلسلة مترابطة ومتزامنة نحو الانتخابات العامة الشاملة.
وفي حديثه، أكَّد الرئيس الشرع أن هذا المجلس لا يُعتبر نموذجاً ثابتاً بل هو إطار مرحلي يُراعي متطلبات المرحلة ويتيح المرونة اللازمة للتكيف مع التطورات، هذا المفهوم يعكس رؤية عميقة تستوعب طبيعة الثورات التي لا تنتقل من نظام إلى آخر بين ليلة وضحاها، بل تمر بسلسلة من المراحل التي تحتاج إلى تنظيم متقن.
من حديث الرئيس الشرع تدرك أن السياسة السورية تشبه فن حياكة البروكار الدمشقي حيث لا تُترك أي عقدة للصدفة، بل تُحاك بحرفية لتنتج نسيجاً ثابتاً يحمي المرحلة وهذه الحياكة السياسية التي أبرزها الرئيس الشرع، والتي تهدف إلى تثبيت توافقات وطنية تعكس مصالح الشعب وتطلعاته، مع مراعاة التنوع الاجتماعي والاقتصادي، كما أكَّد أن العملية متكاملة بدأت بتغطية الفراغ الرئاسي، مروراً بمؤتمر وطني جامع، وتشكيل حكومة انتقالية، وصولاً إلى التحضير لانتخابات تشريعية تأتي بمجلس شعب قادر على المشاركة في صياغة دستور جديد أكثر شمولية وتفصيلاً.
من أولويات المرحلة القادمة، كما أشار الرئيس الشرع، هي إعداد دستور جديد يراعي التفاصيل الدقيقة ويعكس توافقات سياسية واجتماعية، وهذا يعكس استراتيجيات قيادية دقيقة، فالصياغة الدستورية ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي فن سياسي بحد ذاته يحتاج لصبر ودقة، كما أن مرونة التعليمات التنفيذية للمرسوم رقم 143، التي تُتيح تحسينات مستمرة للعملية الانتخابية، تؤكد حرص القيادة على تطوير التجربة الانتخابية بما يتناسب مع الظروف ويعزز من ثقة المواطنين في العملية السياسية.
الانتخابات التشريعية هذا العام تبدو محطة مفصلية، ليس فقط لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة، بل أيضاً لبناء ثقة مجتمعية تفسح المجال ليحكم السوريين أنفسَهم بأنفسِهم ويكونوا هم صناع القرار، وفق إجراءات قانونية مدروسة ومحكمة متجددة، تستند على أسس قوية ومتينة.
الرئيس الشرع تحدث وفق رؤية وطنية شاملة، تعي تماماً أن انتقال النظام السياسي يحتاج إلى جهود مكثفة على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والقانونية، وأن السرعة مطلوبة دون تسرُّع، لذلك يجمع حديث السيد الرئيس بين الواقعية السياسية والأمل بمستقبل واعد، مستشهداً بالخطوات العملية التي تُجهز الأجواء لإجراء انتخابات شاملة، ليثبت من جديد أن السياسة السورية حرفة متقنة، فيها تتلاقى الدقة والإتقان مع الصبر والحكمة، لإنتاج نسيج سياسي وطني يناسب السوريين في بناء وطن مستقر وموحد يضمن حقوق الجميع ويحتضن تنوعهم.