ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
لم يكن الاستعراض الروسي في الساحة الحمراء بالذكرى السبعين للانتصار على النازية مجرّداً من دلالات المشهد السياسي في عالم اليوم، الذي أتخمته تموّجات المواجهة المفتوحة والواضحة، مستعيدة قواعد الاشتباك التي سادت في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فروسيا ليست وريثاً افتراضياً أو اتوماتيكياً للاتحاد السوفييتي السابق، بقدر ما هي قوة عالمية طامحة، وقد تدرّجت على سلّم المسرح الدولي من بوّابة الحق الطبيعي كقوة لها حضورها الحقيقي، وإن كانت لا تنفي اتكاءها على الإرث السوفييتي كجزء من المخزون الروسي، حيث وظّفته في إطار الاستفادة من تراكم التجارب التي أنجزها على المستوى الحضاري والإنساني والسياسي.
على هذه القاعدة ثمة مزاوجة حقيقية لا تخفى على أحد بين الحقبة السوفييتية وما أرسته من قواعد على النطاق العالمي وبين الطموح الروسي في بناء منهج خاص يليق بالقوة الروسية، ويستعيد ألَق الحضور، لكن من زاويا وأبواب فرضت نفسها على السياسة العالمية، واستطاعت من خلالها روسيا أن تؤكد علوّ كعبها السياسي في المحفل الدولي، وأنها ليست وريثاً فقط.
وإذا كان الاستعراض يستعيد تقاليد سوفييتية مُحكمة في تفاصيلها وإشاراتها، فإنه في الوقت ذاته كان أكثر استحضاراً للهوية الروسية بطابعها العصري، وخطواتها الواثقة والمتدرّجة، وتحديداً في السنوات الأربع الماضية، عندما أطلقت العنان لهذا الوجود.. بدءاً من مجلس الأمن، وليس انتهاء بأكثر القضايا العالمية سخونة، رغم ما شابها من منعطفات لم تكن سهلة، وما واجهها من تحديات مصيرية ارتضت روسيا أن تدفع ثمن فاتورتها السياسية والاقتصادية وهي مقتنعة.. وربما أكثر إصراراً.
ولم يطل الأمر حتى بدَت ثمار الحركة الروسية تعطي نتائجها، حين حوّلت العالم من قطبية أحادية مسلّم بها، ومعمول بمقتضاها إلى قطبية تميل إلى الافتراض بتعدديتها، وإن لم يسلّم الجميع بها، ولم يرضَ الأميركي حتى اللحظة الأخذ بما تفرضه، بقدر ما يعمل على تجاهل ما ينتج عنها، رغم الشواهد العديدة على أفول قطبيته الأحادية بحكم الأمر الواقع على الأرض.
من هذا المنظور لم يكن الحشد الروسي للاحتفال بالانتصار على النازية يقتصر على رسائل القوة الروسية، بقدر ما كان أيضاً حالة ردّ مباشر على رفض الكرملين والقيادة الروسية لمحاولات إعادة كتابة التاريخ وتفاصيل مجرياته وفق المصلحة الغربية، التي تعيد الكرة في الجور على التضحيات الروسية وكل الشعوب المنضوية تحت الراية السوفييتية، ولم يكن الغياب الغربي عن مراسم الاحتفال وخفض مستوى المشاركة المباشرة فيه قادراً على تغيّر الرؤية الروسية، وهي مدركة لأبعاد التحدي الإرهابي الذي يشابه التحدّي النازي في ذلك الحين، وأن الحاجة للروسي اليوم لا أحد بمقدوره أن يستغني عنها في هذه المواجهة.
ومن هذه الزاوية تكاد الرسالة الروسية تكون الأبلغ التي تجزم بأن سياق التحوّل العالمي لا يستطيع في نهاية المطاف أن يغيّب إسقاط الحاضر على قناعات الماضي، ولا أن يغيّر في المقاربات التي تنحو باتجاه المقارنة، رغم فارق المشهد وحساباته والتجاذبات التي أملتها المتغيّرات الدولية على مدى العقود الماضية.. وتحديداً فيما يختص بالاستفراد الأميركي الذي يُروّج له، وذلك على قاعدة أن تجارب ودروس الماضي لا يمكن سحبها أو محيها، وأن التمنيات لا تكفي في زمن لا يعترف إلا بالوقائع، ولا يجاهر إلا بالحقائق حتى لو حاولت «البروباغندا» الغربية أن تغيّبها أو أن تسقطها من تداولاتها.
روسيا تستعرض في ذكرى الانتصار على النازية، والعالم يواجه ما هو أشرس، وما قد يكون أكثر كارثية منها في ظل تفشّي الإرهاب، الذي تغوص فيه الأصابع الغربية وأدواتها في المنطقة، – تستعرض- وهي تسجل نقاطاً إضافية وتحصد في الميدان السياسي فائضاً محسوماً من أوراق القوة التي تحوّل الاحتفال إلى مشهد روسي، يحاكي في الحدّ الأدنى تطلعات مشروعة وإمكانيات حقيقية لمواجهة الخطر الداهم، وبما يترجم كامل نص الرسالة بأن روسيا اليوم ليست روسيا قبل عامين، ولا هي روسيا قبل عام واحد، وأن الروس الذين ضحّوا من أجل هزيمة النازية هم الذين سيحدّدون مصير ما تواجهه البشرية، سواء أكان بالتشاركية أم من خلال التحدي الذي أبرزته مراسم الساحة الحمراء بوضوح..!!.
a.ka667@yahoo.com