الثورة – سعاد زاهر:
في كل حرب، هناك وجوه صغيرة لا يسمعها أحد، أصوات تختبئ خلف الركام، ورسومات على جدران مهدمة تحاول أن تقول ما عجز الكبار عن قوله، الطفولة في الحرب ليست بريئة فقط، بل شاهدة، ومَن يُنصت إليها يدرك أن التاريخ يُكتب من عيونها قبل أقلام المؤرخين.
في زمن تتكاثر فيه الأفلام الوثائقية حول الحرب السورية، يأتي فيلم “التغريبة السورية” للمخرج نزار الحصان ليمنح الكاميرا وظيفة أعمق، أن تُصغي إلى الطفولة وهي تسرد جرحها، العمل الممتد على 71 دقيقة، ليس مجرد توثيق لمعاناة اللجوء، بل تجربة بصرية وفلسفية تتقاطع فيها الحقيقة مع الفن التشكيلي والأنيميشن، لتشكّل شهادة نادرة على أثر الحرب في جيل كامل.
اثنا عشر طفلاً يروون حكاياتهم، الخوف، الذكريات، الطرق الطويلة، الأحلام المؤجلة، لا يتحدثون بلغة السياسة أو الخطابة، بل بصدق طفولي يختصر المأساة الإنسانية، المخرج يتعامل مع هذه الأصوات بوعي، فلا يسقط في فخ الاستغلال العاطفي، بل يترك للتجربة أن تتنفس بحرّيتها.
يقدّم الفيلم بعداً تشكيلياً مدهشاً عبر رسومات الأطفال أنفسهم، معظمها بالأحمر والأسود، الأحمر يصرخ دماً وخوفاً، الأسود يبتلع الذكريات والغياب.. هذه الرسومات لا تبقى جامدة على الورق، بل تتحرك بالأنيميشن لتغدو صوراً حية تحمل أثر اليد المرتجفة وقسوة اللحظة، هنا ينجح الحصان في تحويل ذاكرة الطفولة إلى لغة بصرية قادرة على النفاذ مباشرة إلى وجدان المتفرج.
من سوريا إلى تركيا، ثم اليونان، وصربيا، وهنغاريا، وصولاً إلى النمسا، يلاحق الفيلم رحلة اللجوء كخريطة للتيه، ليست مجرد حدود عبرها الأطفال، بل محطات ترسّخ قسوة المنفى وتعيد تشكيل ملامحهم. البيئات القاسية والطرقات الموحشة تتحول إلى شخصيات موازية، تصوغ أجواء الفيلم بصمتٍ ثقيل.الأطفال ليسوا ممثلين، بل رواة تجاربهم. وهذا ما يمنح الفيلم خصوصيته، الأداء هنا لا يُقاس بمهارة، بل بصدق يكسر الجدار بين الشاشة والمشاهد، الحصان يتعامل مع هذا الصدق بحساسية، فلا يضيف ما يثقل المشهد، بل يترك للأصوات والرسوم والصور أن ترسم الإيقاع الداخلي.
تكمن أهمية الفيلم أنه يعيد للطفولة صوتها وسط ضجيج الخطابات السياسية والإعلامية، هو فيلم عن الحرب، لكنه أيضاً عن معنى النمو في حضن الألم، خصوصيته تنبع من الجمع بين الوثائقي والفن التشكيلي والأنيميشن، في صيغة غير مألوفة في السينما العربية، والأهم أنه يشكّل جزءاً أولاً من مشروع طويل الأمد، إذ ينوي المخرج العودة إلى الأطفال بعد عقد كامل لرصد تحولاتهم في المنافي الأوروبية.
المخرج نزار الحصان ليس وافداً جديداً على قضايا الحرب والهوية، بل هو صانع سينما نشأ في بيئة البحث عن المعنى وسط الانكسارات، حاصل على ماجستير في الإخراج السينمائي من موسكو، ويقيم في فيينا، حيث أنجز أفلاماً قصيرة وأعمالاً مسرحية وصحفية.. في “التغريبة السورية” يمزج بين تجربته الفنية والإنسانية ليقدّم عملاً يتجاوز حدود الشاشة، يدمج فيه ذاكراتنا الجمعية، ليعلمنا كيف نروي الحرب.. وكيف نصغي إلى الطفولة التي لم يُتح لها أن تكبر.
“التغريبة السورية” قصيدة بصرية عن الطفولة الممزقة، عن كيفية تحويل الوجع إلى فن، والذاكرة إلى لوحة، يذكّرنا أن الحكاية الأصدق تُروى بعيون الأطفال، لا عنهم.