لمحته مرة في نفس سيارة العمل، وفي مرة ثانية قربها، في نفس غرفة العمل حيث مكتبه ملاصق لمكتبها، كانت قد قرأت له الكثير من المقالات الفنية، وآخرها تلك التي غطى فيها إحدى الفعاليات في دار الأوبر، ومع أنه زميل جديد، إلا أنها لا تدري لماذا أخبرته بكل المعلومات التي لم يطلبها عن عمله الجديد، كأنها تنفّذ مقولة هاروكي موراكامي “هناك أشخاص في العالم يريدون التحدث إلى شخص ما حول أي شيء”..
حين انتبهت إلى أنها تكثر من الكلام، قفزت سريعاً باتجاه مكان آخر، علها تصمت..! وتذكرت تلك الليلة حين كانت جالسة في إحدى الدول غارقة في أحزان الغربة، رغم أنها لم تفارق بلدها سوى من بضعة أشهر، ولكنها لم تكن تسمع سوى تلك الكلمات الإنكليزية التي بالكاد تفهم من شخصيات هندية وآسيوية.. حين سمعت قربها أحدهم يتحدث العربية، فاجأته: أنت عربي..؟ وبدا من لهجته أنه من إحدى دول المغرب العربي التي بالكاد تفرق بين لهجاتها، وحين عرفت أنه شاعر من المغرب، أتى لحضور مهرجان شعري، باغتته بحبها للشعر والشعراء، ولنزار قباني، والمتنبي، والمعري، وحين حاول أن يسمعها أبياتاً من الشعر، عاجلته بمثلها حينها لم تشعر بثقل ما حدث، كان كلاهما تواقاً للحديث هرباً من وحدة الأماكن الجديدة، ولكن في مرة تالية حين ذهبت إلى الحديقة ذاتها، وفيما تتابع مشهد مسرحي اعتادت مجموعة أصدقاء كأنهم من دولة آسيوية تقديمه، لفتتها بطلة العمل الرشيقة والتي تؤدي بإبداع مذهل.
فوجئت بتلك الفتاة ترتاح قربها، وهي غارقة في صمت لم تفهمه إلا حين وجهت لها سؤالاً، لتجيبها بإشارات وهمهمات صماء، اتجهت ببصرها نحو اللا شيء، شعرت أن العالم مفرغ تماماً من كلماته، وأن كل ما قالته يوماً لا يساعدها على فهم عبثية اللحظة التي تعيشها، الصمت في مواجهة الفعل المبدع.