الثورة – تحقيق لمى يوسف:
في الخريف تنشط عائلات اللاذقية وريفها لتحضير مؤونة الشتاء، إنها ثقافة متوارثة لتحقيق اكتفاء ذاتي على مائدة التوفير خلال فصل الشتاء. الآن وبسبب الوضع الاقتصادي المتهالك، اختزلت الكميات والأنواع، وبقي الضروري والأساس دبس (الرمان، الفليفلة)، المكدوس، والقليل من الخضار المجففة. في هذ التحقيق الصحفي دخلت صحيفة الثورة بيوت بعض أهالي المحافظة، واطلعت على تفاصيل التجهيز التي تتلاقى مع الجودة ونكهة الأطعمة المتوارثة.

نار تحت الرمان
أغلب سكان الريف بارعون بصناعة دبس الرمان، من أشجار الرمان المزروعة بعناية، يعتمدون على منتجهم كمؤونة، وما يزيد يسترزقون من بيعه لأصدقائهم ومعارفهم والأهالي القاطنين في المدينة. عن الصناعة المنزلية لدبس الرمان يقول السيد مصطفى علي عثمان، صاحب مزرعة أشجار مثمرة متنوعة: إن صناعة دبس الرمان متوارثة عبر أجيال وأجيال في قريتي (برج إسلام)، وطريقة التصنيع واحدة في كل القرى، مع اختلافات بسيطة، بداية يتم قطاف الثمار الحامضة وغسلها وتنشيفها، ثم تقسم كل ثمرة إلى قسمين ويتم ضربها بعصا صغيرة لإخراج حب الرمان بالكامل منها بعد ذلك يتم تنقية الحبوب من القشور الصفراء الداخلية، لأنها تعطي طعماً مراً، بعد ذلك يتم وضعها بـ”الخضاضة” حتى يتم طحنها بشكل جيد، ثم تصفى بالمصفاة للتخلص من البذور، وبعد ذلك تتم تصفية العصير بواسطة شاش كيلا يتبقى أي شيء من الشوائب. ويتابع عثمان: بعد ذلك يوضع العصير في إناء كبير على النار لغليه لمدة ثلاث أو أربع ساعات، بحسب قوة النار. وفي الساعة الأولى يجب مراقبة العصير للتخلص من الرغوة التي تعلوه، ثم يصفّى مرة أخرى بشاش ويترك حتى يبرد ويعبّأ في زجاجات نظيفة لحين الاستخدام في بعض أنواع الطعام.
صديق الأكلات التراثية
يُغْني دبس الرمان العديد من المأكولات بطعم لذيذ، يفتح الشهية. وعن المأكولات التي يُستخدم معها دبس الرمان، تقول أم رشا إبراهيم: هناك الكثير من المأكولات التي نضيف إليها دبس الرمان لأنه يضفي مذاقاً لذيذاً، ونكهة طيبة، كالفتوش، الأكثر غنى بالخضار على موائدنا، والذي لا يكتمل طعمه إلا بدبس الرمان. كذلك يضاف دبس الرمان إلى اليالنجي بأنواعه المتعددة الملفوف الأبيض، الدوالي، والباذنجان، الكوسا، كلها تحشى بالخضار والرز وتُنكّه حشوتها بدبس الرمان. يُضاف إلى الأكلات السابقة “حراق أصبعه”، وهو الألكة التي تتكوّن من العدس، البصل المفروم، الثوم المدقوق، العجين المرقوق، والكزبرة الخضراء مع زيت الزيتون. وكذلك الكبيبات المحشوة بالسلق “كبة السلق” الأكلة الشعبية المحببة في الساحل السوري، يضاف إلى جانبها الثوم المدقوق مع دبسي (الرمان، والفليفلة) وزيت الزيتون هذه الأطعمة تذكرك بنكهة مأكولات الأمهات والجدات اللذيذة والشهية. كما يضاف دبس الرمان مع مقالي الباذنجان والكوسا، ولا ننسى صحن الزيتون الخضيري الفريك مع قليل من دبس الرمان ودبس الفليفلة.

طعم حارق
تختار أغلب العائلات في الساحل أيام الخريف لصناعة دبس الفليفلة الحمراء، الذي تربك صناعته المنزل، فالكميات كثيرة، منها الحار، ومتوسط الحدة. دبس الفليفلة يحتاج إلى كفوف بلاستيكية للوقاية من التهاب الأيدي، وغالبا ما يتم وضع كمامة على الأنف للتخفيف من حدة استنشاق الفليفلية الحادة. تقول السيدة تغريد شاهين: في صناعة دبس الفليفلة أمزج بين الفليفلة البلدية الصغيرة، قليلة الرطوبة، ذات الطعم اللاذع الحار، ونوع “قرن الغزال” لأنه يعطي طعماً لذيذاً ومردوده من الدبس أكثر. وبعد اختيار حبات الفليفلة الجيدة تغسل جيداً، ثم نشرّشها، ونستخرج منها البذور، وننشرها على أقمشة نظيفة في الهواء، وتحت شمس ساطعة لتذبل وتخف رطوبتها، وليتم طحنها وتمليحها ووضعها في أوعية مسطحة أيضاً تحت أشعة الشمس لتجفيفها من السوائل قد الإمكان، ثم تدعك بزيت الزيتون وتعبأ بأوعية زجاجية مؤونة للشتاء، وتستمر حتى الصيف.
أكثر إنتاجية
تختلف السيدة غيداء شاهين عن أختها بطريقة صناعة دبس الفليفلة فتقول: أختار نوع “قرن الغزال” فقط لأنه أسهل بالتحضير، وأكثر إنتاجية، ولذيذ الطعم، أكره عجقة المنزل بها لذلك أسعى لصناعتها على فترات متلاحقة، كل خمسة كيلوغراً معاً، أغسلها وأنظفها، وأستخرج منها الشوائب والبذور، وأقطعها، وأضع الملح عليها وهي في وعاء “ستانلس ستيل”، لتصفيتها من الماء، ثم أضعها على نار متوسطة وأحركها بين الحين والآخر، ثم أطحنها في الخلاط، بذلك أكون قد عقمتها بتعريضها للنار، وأصبحت قشرتها طرية ومذاقها لذيذًا، ثم أضعها في أوعية مسطحة تحت أشعة الشمس إلى أن تجف جيداً، فأضعها في أوعية زجاجية، وأضيف القليل من زيت الزيتون على وجهها، وصحة وهنا لآكلها.
يدخل دبس الفليفلة إلى الكثير من المأكولات الشعبية وغير الشعبية في سورية، تقول السيدة نوال صقر: تزيد لذة أغلب المأكولات بعد إدخال دبس الفليفلة إليها، فمثلاً الملوخية وقلاية الثوم مع الكزبرة والكثير من دبس الفليفلة وعصير الليمون يزيد الأطعمة لذة. ينسحب ذلك على حساء السلق والعدس المعروف بالرشتاية الأكلة التراثية الساحلية التي تُقلى أيضاً بالثوم والحامض ودبس الفليفلة. وتستخدم مع فطائر المحمرة الساخنة، ولا ننسى الخبزة المقمرة حين تدهن بدبس الفليفلة وزيت الزيتون فهي من الأكلات الخفيفة والسريعة المفضلة لدى الكثيرين.
المكدوس
غالبية سيدات الساحل يؤجلن صناعة المكدوس إلى تشرين لأسباب تعتبر أساسية، منها انخفاض درجة الحرارة واختيار الجوز البلدي الجديد، واستخدام دبس الفليفلة الحديث، وزيت الزيتون المستخرج بنفس الموسوم إن أمكن. تقول السيدة جميلة طه: الباذنجان الزهري اللامع هو أفضل أنواع مؤونة المكدوس، فهو حلو المذاق، أبيض القلب ورقيق القشرة، لا يحتاج لوقت بالسلق، أيضاً لا يحتاج إلى وقت طويل في العصر بعد كبسه، فبعد أن يبدأ بالاستواء يُرفع من الماء المغلي ويبرّد سريعاً مرات عدة، ثم يتم تمليحه وحَشوه، السيدة طه شدّدت على أهمية اختيار الجوز البلدي الجاف المناسب، فهي ضد الجوز الأوكراني والأميركي. كذلك الثوم فلا يناسب الثوم الصيني، فقط المناسب هو الثوم السوري الطيب، مع دبس الفليفلة من مؤونة الموسم الحديث، يضاف إليها فليفلة حمراء مقطعة بالسكين، يُحشى الباذنجان المعصور ويوضع في أوعية زجاجية معقمة وناشفة، وتترك يوماً أو أكثر مقلوبة في وعاء لاستخراج ما تبقى من الماء في المكدوس، ثم يضاف زيت الزيتون الجديد للوصول إلى طعم فاخر، فلا أحد يعرف سر النكهة إلا صاحبة النفس الطيب.
قلّة الموارد
أشهُر المؤونة مرهقة، ففيها جهد كبير، وعبء مالي، وخاصة في الفترة الأخيرة، فقد بات جلياً أن كمية المؤونة اختصرت، وقلّ تنوعها عما سبق من الأعوام، بسبب انخفاض القدرة الشرائية، وكثرة الأعباء اليومية، وتَرافقها مع بدء العام الدراسي، فسيدات الساحل السوري يجاهدن لضبط ميزان الدخل والمصروف، ليبقى أمان عائلاتهن الغذائي تحت السيطرة، فلم يعد بإمكان سيدة المنزل زيادة البحبوحة في المؤونة، بل أصبحت “على القد”، وربما أقل، على أمل أن تتحسن الظروف، ويكون التموين لأيام البرد القاسية أقل كلفة وإرهاقاً.
وعلى الرغم من انخفاض أسعار السلع الآن عن الأعوام السابقة، فلا يزال هناك خلل كبير في الميزان الاقتصادي للعائلات في الساحل، فالدخل لا يتناسب مع المصاريف، إلا أن غالبية العائلات لا يمكنها شراء تلك المواد لقلة الموارد المالية أو لغيابها تماماً، وهذا يمثل سبباً رئيسياً في العزوف عن تأمين مؤونة لشتاء القادم. تقول (أم رضا. خ): المؤونة ضرورية في البيت وتساهم في تخفيض تكاليف الطعام شتاء، لكن راتبي التقاعدي وما أتقاضاه من الدروس الخصوصية، بالكاد يكفي تكاليف تعليم أولادي الثلاثة، ومنذ عقد مضى لم أفكر بتحضيرها، قد أعود في القادمات من الأيام لهذا التقليد وأملأ بيتي بمؤونة تليق به، ضاحكة أي سأعيش حياة الرفاهية!!.