شهر “المؤونة” بحلب.. أيلول بين تقاليد عريقة وضغوط معيشية خانقة

الثورة – تحقيق جهاد اصطيف:

يعد شهر أيلول عند السوريين عموماً، والحلبيين خصوصاً، شهراً استثنائياً لا يمر مرور الكرام كغيره من أشهر السنة، فالأعباء تتشابك فيه وتتضاعف لتضع الأسر في مواجهة مباشرة مع ما يمكن تسميته بـ “العاصفة المعيشية”، إذ يتزامن موسم “المؤونة” السنوي- بما يحمله من طقوس راسخة في الذاكرة الشعبية، مع بداية العام الدراسي بكل ما يتطلبه من تجهيزات ونفقات، إضافة إلى اقتراب فصل الشتاء، وما يفرضه من تحديات في تأمين الوقود ووسائل التدفئة.

هكذا يتحول أيلول إلى “شهر المصاريف الثقيلة”، إذ يجد المواطن نفسه محاصراً بين ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها، ودخل شهري بالكاد يغطي الأساسيات، ومع ذلك، يبقى “شهر المؤونة” جزءاً لا يتجزأ من وجدان الأسر الحلبية، ورمزاً لصمودها أمام شظف العيش وتقلبات الزمن.

تقليد يتحدّى الغلاء

“المؤونة” في الثقافة الشعبية، ليست مجرد مؤونة غذائية تخزن للشتاء، بل هي فعل انتماء اجتماعي وذاكرة جماعية متوارثة عبر الأجيال، فمن المكدوس إلى الفليفلة المجففة، ومن المربيات بأنواعها إلى الملوخية، والبصل، والثوم، والمخللات، تشكل “المؤونة” لوحة غنية تعكس علاقة الحلبي ببيئته وغذائه. غير أن هذا التقليد بات اليوم مهدداً بسطوة الغلاء، فصحن الباذنجان اللازم للمكدوس ارتفع إلى مستويات قياسية، فيما الجوز والزيت- وهما عنصران أساسيان- أصبحا “ترفاً” لا تقدر عليه معظم الأسر، حتى الفليفلة التي كانت تشترى بالأكياس الكبيرة لتفرم وتجفف، صارت تشترى بالكيلو الواحد، بل ويضطر البعض إلى الاكتفاء بكمية رمزية “لرفع العتب”.

مشاهد من أسواق حلب

في جولة إلى أحد أسواق الخضار في حي صلاح الدين بحلب، بدا المشهد مفعماً بالتناقضات، أصوات الباعة ترتفع معلنة الأسعار: الباذنجان بـ 5 آلاف ليرة للكيلو، والفليفلة الحمراء بـ 6 آلاف ليرة، وكيلو الجوز يتجاوز المئة ألف ليرة، وكيلو الزيت الأصلي 75 ألفاً على الأقل. أمام هذه الأرقام، تتوقف ربة المنزل ربيعة، ع متحيرة: كيف أصنع المكدوس لأولادي؟ كيلو الجوز لوحده يحتاج لميزانية!، ثم تضيف بابتسامة يائسة: سأصنعه من دون جوز.. أو بكميات قليلة، المهم ألا يمضي الشتاء من دونه. أما كمال. د، بائع خضار، فيؤكد أن الحركة ضعيفة مقارنة بالسنوات السابقة، فالناس أصبحت تشتري بالكيلو بدل الصندوق، وكل زبون بات يحسب حساب كل ليرة، وهناك زبائن يفاصلون على الخمسمئة أو الألف ليرة !

مكدوس للتاريخ

وفي حواراتنا مع عدد من الأسر الحلبية حول تجهيز المؤونة، وفي مقدمتها المكدوس، أوضحت سعاد. م خلال حديثها لـ”الثورة” أنها أيام زمان كانت تعمل 100 كيلو باذنجان مكدوس، وتوزع منه للضيوف والأقارب، اليوم بالكاد عملت 20 كيلوغراماً، وطعّمته بزيت قليل وجوز أقل، حتى لا ينسى أولادها طعمة المكدوس. مصطفى. د، موظف وراتبه لا يتعدى المليون ليرة، يشير إلى أن أقل ثمن دفتر مدرسي خمسة آلاف ليرة، والحذاء بـ 75 ألف ليرة، فإذا أردت أن أعمل “مونة ” فهذا يعني إما أن استدين، وإما أن أحصل على قرض- وهذا غير متاح حالياً، ولم يعد بمقدوري أن أوفق بين المدارس و”المؤونة” والمازوت للشتوية. إسراء. ا طالبة جامعية بينت أنهم في البيت باتوا يعملون “مؤنة” صغيرة، مربى المشمش فقط، مستغنين عن بقية الأنواع، والمكدوس بالنسبة لهم يعني للأكل صباحاً فقط، وليس للكرم أو الضيافة مثل أيام زمان.

تحولات “المؤونة”

في الماضي، كانت “المؤونة” مشروعاً جماعياً تشترك فيه العائلة كلها، النساء يجتمعن لفرم الفليفلة وغلي المربيات، والأطفال يشاركون في تقشير الباذنجان، فيما الرجال يوفرون الكميات الكبيرة من الخضار والحبوب، وكان البيت الحلبي يفتخر بامتلاء مطبخه و”مستودعه” بصفوف “المؤونة” المرتبة، أما اليوم، فقد تقلصت الكميات وأُعيد تعريف ” المؤونة ” لتصبح مجرد ” حصة رمزية ” تحفظ الحد الأدنى من الطقوس، لقد فقدت “المؤونة” شيئاً من رمزيتها كصورة عن الوفرة والكرم، وأصبحت مرآة للضيق والتقشف.

وبحسب تقديرات اقتصادية غير رسمية، تحتاج الأسرة الحلبية المتوسطة إلى ما لا يقل عن 5 ملايين ليرة شهرياً لتأمين احتياجاتها الأساسية (غذاء، تعليم، محروقات)، بينما لا يتجاوز متوسط دخل الموظف مليون ليرة سورية، فتكاليف “المؤونة” وحدها (ولو بالحد الأدنى) تتطلب أيضاً أكثر من 5 ملايين ليرة، وهو رقم يستحيل على غالبية الأسر توفيره دفعة واحدة، لذلك، تنتشر ظاهرة: شراء المؤونة بالتقسيط، والاستدانة من الأقارب أو البقاليات، والاستعاضة عن بعض الأصناف ببدائل أرخص.

لا يقتصر عبء أيلول على “المؤونة” والمدارس، بل يضاف إليه هاجس الشتاء، فمعاناة تأمين الوقود للتدفئة تكاد تفوق كل التحديات الأخرى، ليتر المازوت يصل سعره إلى نحو 10 آلاف ليرة.

يقول حسين. ع: لو سعينا وراء “المؤونة” ولم نستطع أن نؤمن وسائل التدفئة لأولادنا في الشتاء، ما الفائدة ؟، في إشارة إلى أن الأسر باتت مضطرة للمفاضلة بين الطعام والدفء.

ابتكار من قلب الأزمة

على الرغم من كل الضغوط، لا تزال الأسر الحلبية قادرة على التكيف بطرق مختلفة، منها، تقليل الكميات والاكتفاء بما يسد الرمق، والاعتماد على “التخزين الجماعي” مع الأقارب وتقاسم النفقات، وشراء مواد أولية أرخص أو بقايا الخضار من آخر النهار، وإعادة تدوير بقايا الطعام وتحويلها إلى مؤونة بسيطة، واللجوء إلى “المؤونة البديلة”، مثل تجفيف الأعشاب والخضار الرخيصة.

“المؤونة” ليست مجرد غذاء، بل هي شعور بالأمان والطمأنينة للأسرة، حين ترى ربة البيت رفوف المؤونة ممتلئة، ولو بكميات قليلة، تشعر بالاستقرار النسبي لمواجهة الشتاء.. لذلك، فإن تقليصها أو غيابها يترك أثراً نفسياً عميقاً، إذ يولد شعوراً بالحرمان وفقدان السيطرة على أبسط تفاصيل الحياة اليومية.

أيلول مرآة الأزمة

إن متابعة تفاصيل حياة الأسر في أيلول تكشف عن صورة أوسع للأزمة المعيشية في سوريا، فالغلاء المتصاعد وتآكل القدرة الشرائية ينعكسان في كل زاوية من زوايا الحياة، في المدارس، في الأسواق، وفي تحضيرات الشتاء، و”المؤونة”- التي كانت رمزاً للوفرة- باتت عنواناً للتقشف.

ومع ذلك، فإن إصرار الأسر على تحضير “المؤونة”، ولو بأبسط صورة، يعكس روح التشبث بالجذور والعادات، فهي ليست مجرد “مؤونة” غذائية، بل فعل مقاومة يومية ضد اليأس وضد محاولات انتزاع الذاكرة من حياتهم.

ويبقى شهر أيلول بالنسبة للحلبيين شهر “المصاريف الثقيلة”، لكنه أيضاً شهر “التشبث بالذاكرة”، فعلى الرغم من الصعوبات، لا تزال الأسر تحرص على تحضير “المؤونة” ولو بالحد الأدنى، كأنها تقول للعوز والحرمان: لن تتغلبا على تقاليدنا.

إن “المؤونة” اليوم لم تعد فقط طعاماً للشتاء، بل صارت شهادة حية على قدرة السوريين عامة، والحلبيين خاصة، على التكيف مع أقسى الظروف، هي أشبه برسالة من مطابخ البيوت تقول: قد تقل الكميات، وقد نفتقد بعض المكونات، لكن الطقوس تبقى، والعادات تبقى، والأمل أيضاً يبقى.

آخر الأخبار
إعزاز تحيي الذكرى السنوية لاستشهاد القائد عبد القادر الصالح  ولي العهد السعودي في واشنطن.. وترامب يخاطب الرئيس الشرع  أنامل سيدات حلب ترسم قصص النجاح   "تجارة ريف دمشق" تسعى لتعزيز تنافسية قطاع الأدوات الكهربائية آليات تسجيل وشروط قبول محدّثة في امتحانات الشهادة الثانوية العامة  سوريا توقّع مذكرة تفاهم مع "اللجنة الدولية" في لاهاي  إجراء غير مسبوق.. "القرض الحسن" مشروع حكومي لدعم وتمويل زراعة القمح ملتقى سوري أردني لتكنولوجيا المعلومات في دمشق الوزير المصطفى يبحث مع السفير السعودي تطوير التعاون الإعلامي اجتماع سوري أردني لبناني مرتقب في عمّان لبحث الربط الكهربائي القطع الجائر للأشجار.. نزيف بيئي يهدد التوازن الطبيعي سوريا على طريق النمو.. مؤشرات واضحة للتعافي الاقتصادي العلاقات السورية – الصينية.. من حرير القوافل إلى دبلوماسية الإعمار بين الرواية الرسمية والسرديات المضللة.. قراءة في زيارة الوزير الشيباني إلى الصين حملات مستمرة لإزالة البسطات في شوارع حلب وفد روسي تركي سوري في الجنوب.. خطوة نحو استقرار حدودي وسحب الذرائع من تل أبيب مدرسة أبي بكر الرازي بحلب تعود لتصنع المستقبل بلا ترخيص .. ضبط 3 صيدليات مخالفة بالقنيطرة المعارض.. جسر لجذب الاستثمارات الأجنبية ومنصة لترويج المنتج الوطني المضادات الحيوية ومخاطر الاستخدام العشوائي لها