الثورة – عبد الحميد غانم:
في خضم الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية السورية، لم يعد خيار الاعتماد على الموازنة العامة وحدها مجدياً لتمويل إعادة الإعمار. في هذا المشهد، تبرز الشراكات بين القطاعين العام والخاص كضرورة استراتيجية ومحرك حيوي لتعبئة رأس المال، والخبرات، والتقنيات الحديثة التي يتطلبها مشروع الإعمار.
حاجة ملحّة
تُلخص الأرقام والبيانات الوضع الكارثي للاقتصاد السوري، ويشير نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور ياسر مشعل إلى أن “سنوات الأزمة الطويلة والعقوبات الاقتصادية الدولية أدت إلى تدهور غير مسبوق”. وأضاف في حديثه لـ”الثورة”: “انخفض الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير، وارتفعت معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات قياسية، مما أثر سلباً على القوة الشرائية للمواطنين وتفاقمت مشكلة الدين العام”. هذا التدهور الاقتصادي انعكس- بحسب د. مشعل، بشكل مباشر على البنية التحتية، التي تعرضت لتآكل واسع في شبكات الطرق والجسور والمياه والطاقة والاتصالات، إضافة إلى المرافق الحيوية مثل المستشفيات والمدارس. وقال: “إن حجم الدمار الهائل يجعل من إعادة البنية التحتية مهمة تتطلب استثمارات ضخمة، تتجاوز بكثير قدرة الحكومة وحدها، مما يضع نماذج الشراكة في صلب الحلول الممكنة”.
نماذج مرنة
بناءً على الدروس المستفادة من تجارب دولية مماثلة في مراحل ما بعد النزاع، أكد الخبير الاقتصادي أن سوريا تعتمد على مجموعة من نماذج الشراكة، أبرزها: عقود البناء والتشغيل والتحويل (BOT): وهي مناسبة للمشاريع الكبرى مثل محطات الطاقة وتحلية المياه، إذ يتحمل القطاع الخاص التمويل والبناء والتشغيل لفترة محددة قبل نقل الملكية للحكومة. أيضاً عقود التشغيل والصيانة (O&M)، يمكن تطبيقها على المرافق القائمة التي تحتاج لإعادة تأهيل، مثل شبكات المياه، لتحسين كفاءتها من دون أعباء تمويلية كبيرة على الحكومة. كذلك الشراكات المؤسسية عبر إنشاء كيانات مشتركة لإدارة مشاريع استراتيجية كبرى، مثل تطوير مناطق صناعية متكاملة، مما يضمن مشاركة حقيقية في المخاطر والأرباح.
شروط النجاح
شدد د. مشعل على أن نجاح أي من هذه النماذج مرهون بتوفر بيئة تمكينية قوية، لافتاً إلى أن أولى هذه الشروط هي وجود إطار قانوني ومؤسسي شامل يحدد بوضوح آليات التعاقد، وتوزيع المخاطر، وحقوق وواجبات جميع الأطراف، ويوفر حماية قوية للمستثمرين، ويتطلب ذلك سن قانون حديث ومستقل للشراكات بين القطاعين العام والخاص. ونوه بأن الشرط الثاني والأهم، هو تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد عبر إنشاء سجل عام للمشاريع، وتطبيق معايير دولية في الطرح والمنافسة، وتمكين الأجهزة الرقابية، فبدون ثقة، سيتحفظ المستثمرون المحليون والأجانب على الدخول في أي شراكات. وعلى الرغم من أنه لا يخفى على أحد أن الطريق أمام هذه الشراكات محفوف بالتحديات، أوضح د. مشعل أبرز هذه التحديات، بالإشارة إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني، الذي يظل العائق الأكبر أمام جذب الاستثمارات طويلة الأجل، وإلى استمرار العقوبات الدولية، التي تقيد وصول سوريا إلى التمويل والتكنولوجيا العالمية. إضافة إلى القدرة الشرائية للمواطن، مما يؤثر على الجدوى المالية للمشاريع التي تعتمد على رسوم الخدمة، ونقص البيانات الموثوقة والكوادر المؤهلة اللازمة لتخطيط وإدارة مشاريع معقدة.
استثمار في المستقبل
ورغم كل هذه التحديات، فإن الشراكة بين القطاعين العام والخاص- وفق د. مشعل، ليست رفاهية، بل هي استثمار ضروري في مستقبل سوريا. وأكد أنها النموذج الأمثل لتحويل عبء إعادة الإعمار إلى فرصة للتنمية المستدامة، عبر استقطاب الكفاءات والابتكار الذي يمتلكه القطاع الخاص. وعليه، فإن النجاح كما يبين د. مشعل، مرهون بتبني رؤية متكاملة تبدأ بالإصلاح القانوني والمؤسسي، وترسخ مبادئ الشفافية والحوكمة، وتعمل على بناء جسور الثقة مع المستثمرين. وقال: إنها معادلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، وثمارها ستكون إعادة إعمار لا تعيد الحجر فقط، بل تبني اقتصاداً أقوى ومجتمعاً أكثر استقراراً.