الثورة – جهاد اصطيف:
في قلب مدينة حلب، حيث تتعانق الحجارة العتيقة مع أصوات الناس وضحكاتهم، ارتسمت مساء أمس لوحة فنية مهيبة في مدرج قلعة حلب الأثرية، لم يكن المشهد مجرد احتفال رسمي بانتهاء أعمال الصيانة والترميم وافتتاح القلعة أمام الزوار، بل كان أقرب إلى إعلان حياة جديدة لمعلم صمد في وجه قرون من التحولات والحروب والدمار.
على مدى يومين كاملين، عاشت حلب أجواء ثقافية وفنية مميزة بمشاركة فرق موسيقية وتراثية محلية، وبحضور جماهيري واسع تنوع بين أبناء المدينة وضيوفها من مختلف المحافظات وحتى زوار من خارج البلاد.
كان الاحتفال بتنظيم من وزارتي السياحة والثقافة ومحافظة حلب، متزامناً مع فعاليات اليوم العالمي للسياحة، ليحمل رسالة واضحة للعالم أن سوريا، رغم كل ما مرت به، لا تزال قادرة على صون تراثها وحماية هويتها الثقافية.
يوم من التراث
انطلق اليوم الثاني من الفعالية بعزف منفرد على آلة القانون للفنانة ليندا حوري، التي أبهرت الحاضرين بدقة أدائها وانسيابية أنغامها، تلتها عروض للفرقة الشركسية بأزيائها المميزة وحركاتها الرشيقة، ثم الفرقة الأرمنية التي قدمت رقصات مستوحاة من تراث أرمينيا الشعبي، تلاها عرض للفرقة الكردية التي تفاعل معها الجمهور بحرارة لما حملته من إيقاعات مفعمة بالحيوية والألوان.
إلا أن الذروة جاءت مع فقرة القدود الحلبية، تلك المدرسة الفنية التي ارتبط اسمها بمدينة حلب وذاع صيتها في المشرق العربي، فقد تجاوب الجمهور بشكل لافت، مردداً بعض المقاطع مع المؤدين، وكأنما أراد أن يثبت للعالم أن حلب ما زالت مدينة الطرب الأصيل، وبفقرة إنشاد مميزة قدمها عبد الناصر حلاق اختتم الحفل.
عودة الروح إلى المدينة
الحفل لم يكن مجرد عروض، بل كان مناسبة وجدانية تركت أثراً عميقاً في نفوس الحاضرين.
عدد كبير من الزوار والحاضرين عبروا عن فرحهم وفخرهم بافتتاح القلعة، وقال أحدهم: حين وقفت على أسوار القلعة ونظرت إلى المدينة المضيئة من حولي، شعرت وكأنني أتنفس من جديد، هذا المكان ليس حجارة فقط، بل هو تاريخنا وهويتنا.
أما ثائر عبد الغفور، القادم من دمشق، فوصف المشهد قائلاً: لقد بكيت من الفرح، لم أتوقع أن أشاهد هذه الأجواء في حلب بهذا الشكل البهيج، كأن القلعة اليوم تحتفل بانتصار الحياة على كل ما مر بها.
من جهة أخرى، أشار زائر أجنبي إلى أن حضوره الحفل كان بمثابة تجربة لا تنسى: عندما شاهدت الاحتفالية هنا، أحسست أنني أمام لوحة منسوجة من الماضي والحاضر، قلعة حلب ليست مجرد أثر سوري، إنها إرث إنساني عالمي.
قلعة تتجاوز الزمن
تعد قلعة حلب حسب مؤرخين واحدة من أقدم وأكبر القلاع في العالم، وقد شيدت على تل اصطناعي يرتفع نحو 50 متراً في قلب المدينة، يرجع تاريخها إلى عصور قديمة، إذ تعاقبت عليها حضارات عدة من الآراميين واليونانيين مروراً بالبيزنطيين، وصولاً إلى العصور الإسلامية، حيث بلغت القلعة ذروة مجدها.
خلال الحروب الصليبية، شكّلت القلعة حصناً منيعاً، وفي العهد الأيوبي استكملت أهم تحصيناتها، أما اليوم، فهي مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، باعتبارها شاهداً على مراحل متعددة من تاريخ الشرق الأوسط.
على مدى سنوات، خضعت القلعة لسلسلة من عمليات الترميم، شملت تدعيم أسوارها وإعادة تأهيل ممراتها وأبراجها، إضافة إلى تنظيف النقوش الحجرية وترميم بوابتها الرئيسة، شارك في هذه الأعمال خبراء محليون ودوليون، في مسعى للحفاظ على أصالة المعلم وضمان استدامته للأجيال القادمة.
وقد حظي الحفل بتغطية واسعة من وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية، ونقلت مشاهد الافتتاح مباشرة عبر شاشات التلفزة، فيما امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو وصور توثق اللحظة، واعتبر كثير من المتابعين أن هذه الصور “أفضل دعاية سياحية مجانية” يمكن أن تحصل عليها المدينة في هذه المرحلة.
صوت الفن يعلو
في وقت ليس ببعيد، ارتبطت أخبار حلب بأصوات الحرب والدمار، لكن المشهد أمس كان مختلفاً كلياً، موسيقا، ضحكات، أضواء تزين سماء القلعة، وجمهور متنوع يحمل في عينيه الأمل، هذا التناقض لم يغب عن الحاضرين الذين أكدوا أن الاحتفال لم يكن مجرد ترفيه، بل فعل مقاومة ثقافية يؤكد أن المدينة قادرة على النهوض من جديد.
مع انطفاء الأضواء في نهاية الأمسية، غادر الزوار القلعة حاملين معهم صوراً وذكريات ستبقى عالقة في الذاكرة، البعض التقط صوراً شخصية أمام البوابة التاريخية، آخرون سجلوا مقاطع قصيرة تم بثها مباشرة عبر هواتفهم، غير أن الشعور المشترك بين الجميع كان واحداً، إنها بداية مرحلة جديدة لحلب.
فقلعة حلب لم تعد مجرد أطلال تروي ماضياً مجيداً، بل صارت منبراً للثقافة والفن والحياة، ورسالة سلام من مدينة أنهكتها الحروب، لكنها ترفض الاستسلام.