الثورة – تحقيق فؤاد العجيلي:
من قلب حلب تطل علينا البسطات كصرخة صامتة تحكي قصة شعب يبحث عن لقمة عيشه في زمن أصبحت فيه تكاليف المعيشة عالية.. هذه البسطات ليست مجرد مناضد خشبية أو بلاستيكية، بل هي بوابات أمل لعائلات كاملة، وجسر عبور نحو غدٍ أفضل.
حكايات لا تنتهي
في زقاق ضيق بحي السكري، يجلس أبو عادل (55 عاماً) خلف بسطة متواضعة يبيع فيها البقدونس والكزبرة، يقول وهو يمسح دموعه: لم أعتد أن أطلب الصدقة، هذه البسطة حفظت كرامتي.
قصة أبو عادل ليست الوحيدة، فمحمد (23 عاماً) طالب الهندسة الذي اضطر لترك جامعة حلب، وجد في بسطة الهواتف المستعملة ملاذاً له، يقول: أجمع قرشاً لأعيل نفسي ولأتابع جامعتي، الحرب أخذت منا الكثير، لكنها لم تأخذ إصرارنا.
في حي الجميلية، يقف أبو رياض (٥٠ عاماً) خلف بسطة الأدوات الكهربائية المستعملة، وكان صاحب محل في سوق حلب القديمة، يقول بأسى: السوق تعرض للدمار بفعل قصف طائرات النظام البائد لحلب القديمة، لذلك اضطررت إلى البديل في هذه البسطة، لأتمكن من تأمين سبل العيش الكريم لي ولأسرتي.
وفي زاوية، ضمن سوق التلل ، تجلس سلوى (١١ عاماً) خلف بسطة مأكولات للأطفال، تبيع البسكويت والسكاكر لتساعد أسرتها.. تقول ببراءة: “بحب أشتغل مشان أدرس، بدي أكون محامية حتى أدافع عن الأطفال”.
أيهم (22 عاماً)، يدفع عربة صغيرة يبيع فيها الشاي والقهوة بجانب الحديقة العامة يقول: كنت أدرس هندسة كهرباء، لكن الظروف غيرت مشاريعي، فمصاريف الدراسة في الجامعة مرتفعة، ووالدي فقير الحال ولا توجد لدينا مصادر أخرى للرزق، سوى أن أكون بائعاً متجولاً.

توازن صعب
المشكلة ليست بالبساطة التي يتصورها البعض، فمن جهة، هناك أسرة لا تجد قوت يومها إلا من خلال بسطة صغيرة، ومن جهة أخرى هناك ضرورة الحفاظ على الشكل الحضاري للمدينة التي بدأت تلملم جراحها، هذا التناقض يحتاج إلى حلول إبداعية تراعي الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.
تمثل البسطات في مدينة حلب مشهداً معقداً، يجسد التناقض الصارخ في الحياة اليومية للسوريين، فمن جهة هي شريان حياة لآلاف العائلات التي أنهكتها الحرب والأزمة الاقتصادية، ومن جهة أخرى هي مصدر للفوضى وتتعارض مع القانون، ما يعرّضها لتهديد دائم بالإزالة، هذه المعادلة تضع البسطات وأصحابها” بين فكي كماشة” حقيقية.
ليست هذه البسطات مجرد تجارة هامشية، بل هي المصدر الوحيد للدخل الذي يطعم عائلة بأكملها، كثيرون من أصحابها، هم ممن فقدوا وظائفهم واضطروا لهذا العمل لسد أدنى متطلبات الحياة، كما أنها سلاح لمواجهة الغلاء للزبائن، حيث تمثل هذه البسطات ملاذاً لذوي الدخل الحدود من أسعار المحلات التجارية الباهظة، فهي تبيع المنتجات بأسعار أقل، ما يسمح لأسر ذات دخل محدود للغاية بتأمين حاجياتها الأساسية من ملابس، أدوات منزلية، مواد تنظيف، وأحياناً أغذية، إلى جانب ذلك فهي مؤشر على ارتفاع معدلات البطالة، إذ أصبحت الملجأ الأخير لمن لا يجد عملاً آخر.
اعتراض الطرق والرصيف
في كثير من الأحيان، نجد أن البسطات تسبب ازدحاماً شديداً في الشوارع والأسواق، إذ تعترض حركة المشاة والمركبات، وتشكل خطراً على السلامة العامة، خاصة في حالات الطوارئ، إضافة إلى ذلك نجد أن الكثير من السلع المعروضة مجهولة المصدر، فقد تكون منتهية الصلاحية أو مغشوشة أو مهربة، ما يشكل خطراً على صحة المستهلك، كما أنها تسبب المنافسة غير العادلة مع أصحاب المحال التجارية، فتتذمر المحلات التجارية المرخصة التي تدفع ضرائب وإيجارات باهظة من منافسة البسطات غير القانونية وغير الخاضعة لأي التزامات مالية.
الحل ليس بسيطاً، وهو بالتأكيد ليس بالقول: نزيل البسطات أو ندعها كما هي، فأي قرار يتجاهل الجذر الاقتصادي للمشكلة محكوم بالفشل ويخلق توتراً اجتماعياً، فالإزالة القسرية تعتبر ضربة قاسية لأسر تعتمد على هذا الدخل اليومي، فغالباً ما تتم مواجهة عمليات الإزالة بمقاومة وصراخ يصوره أصحاب البسطات على أنه استهداف لرزقهم الوحيد، والتساهل الكامل يؤدي إلى استفحال الظاهرة وفوضى عارمة تعيق الحياة في المدينة.. لذلك فالمخرج يتطلب نظرة تكاملية ترى الإنسان قبل الحجر.
يرى مختصون في اقتصاد السوق أنه توجد عدة حلول يمكن أن تحقق العدالة بين طرفي المعادلة.. أصحاب البسطات من جهة، والجهات الحكومية من جهة أخرى، فبدلاً من الحملات العقابية، يمكن للبلدية تخصيص أماكن وأوقات محددة لهذه البسطات (أسواق شعبية مؤقتة)، مع فرض رسوم رمزية يمكن تحملها، وكذلك إنشاء برامج حكومية أو غير حكومية لتسجيل هؤلاء الباعة وتأهيلهم ودعمهم بمنح صغيرة لتحويل مشاريعهم إلى مشاريع صغيرة مرخصة.
وفوق هذا وذاك يجب على الجهات المعنية، الحكومة والمنظمات، معالجة الجذر الاقتصادي، لأن أي حل حقيقي يجب أن يكون جزءاً من معالجة شاملة لأزمة الاقتصاد، والبطالة وانهيار القوة الشرائية، فطالما استمرت الأزمة، ستستمر البسطات في الظهور كأحد (أعراض) المرض الرئيسية.
استجابة حيوية
الخبير الاقتصادي الدكتور، عبد الحميد الحلبي، يرى أن ظاهرة البسطات في مدينة حلب هي استجابة طبيعية وحيوية لأزمة اقتصادية وإنسانية عميقة، إنها تجسيد حي لما يسمى “الاقتصاد المرن”، وتؤدي دوراً إيجابياً وحيوياً في الاقتصاد الاجتماعي، فهي شبكة أمان اجتماعي تسهم في مكافحة البطالة، حيث تمثل مصدر رزق لعشرات الآلاف من العائلات التي فقدت معيلها أو وظائفها بسبب الحرب، وتوفر فرص عمل ذاتية منخفضة التكلفة، ما يخفف من حدة الفقر ويحد من الانفجار الاجتماعي.
وأضاف: تسهم البسطات في إعادة تدوير رأس المال البشري، وخلق دورة اقتصادية مصغرة، وتوفير سلع بأسعار معقولة، حيث تلبي البسطات احتياجات شريحة كبيرة من المجتمع الذي انخفضت قدرته الشرائية، وتوفر سلعاً مستعملة، أو جديدة بجودة أقل وسعر أقل، ما يمكن الأسر الفقيرة من الوصول إلى أساسيات الحياة، إلى جانب دورها في إحياء الاقتصاد الاجتماعي غير الرسمي.
وختم الخبير الاقتصادي حديثه: إن البسطات في حلب هي أعراض مرض اقتصادي، وليست المرض نفسه، والقضاء عليها بالقوة هو علاج خاطئ، وسيفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
ويكمن حل المشكلة باتخاذ إجراءات، من بينها إنشاء سجل خاص لبائعي البسطات، وتصنيفهم حسب الحالة الاجتماعية (أرامل، معوقون، عائلات منخفضة الدخل) ومنحهم تراخيص مؤقتة، وإقامة أسواق شعبية مؤقتة في مواقع مناسبة لا تعيق الحركة، مجهزة بمرافق أساسية (كهرباء، مياه، نظافة) وبتكاليف رمزية.
ضرورة التنظيم
بسطات حلب هي أكثر من مجرد طاولات عليها بضاعة، هي صرخة صامتة تخبر العالم عن عمق المأساة الاقتصادية التي يعيشها السوريون، هي تعبير عن إرادة الحياة والتشبث بأدنى فرص العيش الكريم، إن تجاهل هذا البعد الإنساني والاقتصادي في معالجة الظاهرة يجعل أي إجراء غير مجدٍ، وأحياناً غير إنساني، فالنجاح يكمن في إيجاد حلول ذكية توازن بين ضرورة التنظيم الحضاري وإلحاح الحاجة الإنسانية.