الثورة – ثورة زينية:
عند منتصف الليل حين تنطفئ أضواء المحال وتخفت ضوضاء الشوارع، تبدأ دمشق بالكشف عن وجه آخر، وجه لا يظهر في نشرات الأخبار ولا يرصده المارون نهاراً. إنه الوجه المجهول للعاصمة الذي يحمله رجال ونساء يعملون بصمت خلف الكواليس، ليظل كل شيء على ما يرام صباحاً، عمال نظافة وفرق طوارئ، صرف صحي، وفنيو كهرباء، وعمال الحدائق، وعناصر أمن، وخدمة عامة، يجوبون الأزقة والشوارع في عمل يومي مع التعب والخطر وقلة التقدير لعملهم.
في هذا التقرير تسلط صحيفة الثورة الضوء على من يبقون العاصمة حية خلال ساعات النوم، أولئك الذين لا تذكر أسماؤهم في نشرات الجهات المعنية، ولا ترفع صورهم في احتفالات الإنجاز.في ظل الظلام يكافح عمال الصيانة والنظافة في دمشق ليلاً من أجل مدينة نظيفة وصحية، يقول محمد اللباد- عامل نظافة في محافظة دمشق: منذ أكثر من عشر سنوات أعمل في الليل، مردفاً: العمل في الليل صعب لكن لا بد من الاستمرار وكثيرون لا يرون ما نفعله، ولكننا نحافظ على نظافة الشوارع لكي يستيقظ الناس صباحاً على مدينة مرتبة.

بلا دعم ولا تقدير
وداخل أحد الأزقة الضيقة في منطقة مزدحمة تدور عربة صغيرة يجرها عامل يلم النفايات ويعيد تنظيف المكان الذي عبره الآلاف نهاراً.. يقول نبيل أبو غرة- أحد عمال النظافة الليليين في وسط العاصمة: نعمل أنا وزملائي في تنظيف الشوارع من الساعة التاسعة ليلاً حتى الخامسة صباحاً حتى تبقى المدينة نظيفة، لكن نفتقر للمعدات والمستلزمات التي تحمينا مثل القفازات الجيدة والكمامات والأحذية المناسبة، مضيفاً: معظمنا يعمل وقد يكون مهدداً بإنهاء عمله حال انتهاء مدة عقده الموسمي فمعظمنا يعمل بلا عقد دائم وبلا تأمين صحي.
أما رائد الضبع فني صيانة طوارئ لشبكة الصرف الصحي، فيتحدث عن وجه آخر من التحدي، فيقول: أغلب الأعطال تأتينا في الليل من انسداد مجار، أو فيضان صرف في مناطق ليس فيها تصريف جيد، وغالباً ما ندخل من دون معدات كافية، أحياناً من دون قفازات حتى، لكن يجب أن نحل المشكلة فوراً، والآن التأخير يمكن أن يتسبب بمشكلة بيئية، مضيفاً: أحياناً نواجه تسريبات خطيرة أو انسدادات تسبب أمراضاً، والعمل في الظلام وسط هذه الظروف يحتاج شجاعة، ونادراً ما نتلقى دعماً أو تقديراً.العمل الليلي في قطاع الخدمات لا يقتصر على النظافة أو الصيانة، بل يمتد إلى طواقم طوارئ المياه والكهرباء، خصوصاً في الأحياء القديمة حيث البنية التحتية منهكة. يقول أحد مراقبي المناوبات في مؤسسة المياه- فضل عدم ذكر اسمه: إن الفرق العاملة ليلاً تتلقى اتصالات الأعطال حتى الفجر، وغالباً ما يتوجه الفني والعامل إلى الموقع من دون سيارة رسمية، أو بوسائل نقل شخصية ترهق كاهله المادي.
حين يغيب الاعتراف
يقول سمير حلباوي- مهندس سابق في دوائر الخدمات: رغم هذا العناء، تعاني هذه الفئات من نقص في الدعم والاعتراف، إذ تكاد أن تكون رواتبهم لا تغطي حتى الاحتياجات الأساسية ولا تتوفر لهم شروط عمل آمنة أو تدريب مستمر، موضحاً: الغريب أن هؤلاء الأشخاص وعلى الرغم من دورهم الحيوي في الحفاظ على الحد الأدنى من الخدمات في العاصمة لا يحظون بأي نوع من التقدير أو الحماية المهنية، ومعظمهم يعمل من دون عقود دائمة أو تغطية صحية أو حتى أدوات سلامة كافية فالبعض لا يملك سوى قناع قطني وقفازات ممزقة يتعامل بها مع مياه ملوثة أو أدوات كهربائية.وعلى الرغم من خطورة العمل الليلي حسب المهندس الحلباوي وتزايد أعداد الحوادث والإصابات، لا توجد إحصاءات دقيقة تكشف حجم الضرر الذي يتعرض له هؤلاء كما لا تذكر أسماؤهم في نشرات الشكر أو تقارير الإنجاز الرسمية.
العمود الفقري غير المرئي
الخبير في الاقتصاد الاجتماعي الدكتور جهاد سواح بين في معرض حديثه لـ”الثورة” أن العمال والموظفين في قطاع الخدمات يشكلون عنصراً أساسياً للحياة الحضرية في دمشق خاصة في ساعات الليل، أولئك الذين يبدأ يومهم مع غروب الشمس ليضمنوا لنا صباحاً أفضل، إنهم ليسوا فئة خدمية بل هم العمود الفقري غير المرئي لحياة العاصمة، إذ تستمر أعمال الصيانة والنظافة لضمان بيئة صحية وآمنة، مضيفاً: لكن الواقع المؤلم أن هؤلاء العاملين يعانون من غياب الدعم الكافي سواء على مستوى الأجور أو ظروف العمل، وهذا يؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات المقدمة ويزيد من احتمالات الحوادث المهنية والأمراض.
بيئة عمل آمنة ومحفزة
ويؤكد الخبير سواح أن تحسين وضع هؤلاء العمال يتطلب تبني سياسات واضحة للحماية الاجتماعية وتوفير تدريبات مهنية دورية، بالإضافة إلى إيجاد بيئة عمل آمنة ومحفزة مع إشراكهم في صنع القرارات التي تمس عملهم بشكل مباشر، مشدداً على أهمية التوعية المجتمعية بدور هؤلاء الأبطال المجهولين، ليكونوا جزءاً من الصورة العامة لنجاح المدينة، وليسوا مجرد خلفية تنسى.
وختم حديثه: في ظل هذا الواقع تبدو دمشق مدينة تسير على أكتاف جنود مجهولين لا يظهرون في الصور ولا يطالبون بالكثير، ما يحتاجونه ببساطة هو الاعتراف بوجودهم وتحسين الحد الأدنى من ظروف عملهم ومساواتهم مع بقية موظفي القطاع العام في الحقوق والمكافآت، فالمعادلة بسيطة.. إن أردنا مدينة نظيفة ومضاءة وقابلة للعيش يجب أن نحترم أولئك الذين يبقونها على قيد الحياة ليلاً.