تحقيق- جهاد اصطيف:
شهدت مدينة حلب، خلال الأشهر الأخيرة، موجة غير مسبوقة من حوادث السرقة التي تستهدف المارة وحقائبهم الشخصية، في مشهد بات يثير قلق الأهالي ويهدد إحساسهم بالأمان في الشوارع العامة.
اللافت في هذه الحوادث هو القاسم المشترك بينها، دراجات نارية يستخدمها اللصوص وسيلة سريعة للفرار بعد تنفيذ عملياتهم، مستغلين ضعف الرقابة في بعض الأحياء وضيق الشوارع التي تعوق الملاحقة.
وقائع متكررة
من الجميلية إلى الفرقان، ومن ساحة سعد الله الجابري إلى أطراف المحافظة، تتكرر القصص ذاتها، تتبدل التفاصيل وتبقى النتيجة واحدة، مواطن فقد ماله أو حقيبته أو هاتفه المحمول في لحظة غفلة، من دون أن يتمكن من التعرف على المهاجمين في معظم الأحيان، إذ إنهم يختفون في لمح البصر وسط الزحام أو العتمة.
في أحد الصباحات القريبة، كانت الصيدلانية “أماني جقل” متجهة إلى عملها عندما حاول أحد اللصوص انتزاع حقيبتها، مستخدماً دراجة نارية يقودها شريك له.
أماني، أوضحت في حديثها لـ “الثورة”: حاولتُ التمسك بالحقيبة قدر استطاعتي، لكن اللص لم يتوقف، سحبني معه أمتاراً عدة قبل أن أتركها من شدة الألم، فقد أُصبتُ بجروح في ذراعي وركبتي، وما زلتُ حتى الآن غير قادرة على تصديق ما حدث”.
وفي حي الجميلية، تعرض أحد المواطنين لسرقة حقيبته، التي كانت تحتوي على نحو مليون ليرة سورية من قبل شخصين يستقلان دراجة نارية.
يشير شاهد عيان، وهو صاحب أحد المحال في المنطقة لـ “الثورة، إلى أن السرعة التي تمت بها السرقة كانت مذهلة، لم يستغرق الأمر ثواني معدودة حتى تم الأمر واختفى اللصان في الشارع الجانبي المؤدي إلى شارع فيصل.
لم تتوقف الحالات عند ذلك، بل طالت سرقات من داخل السيارات المركونة، كما حدث في سوق عمران، حين سرقت محفظة مواطن من داخل سيارته أثناء توقفه للحظات، كما يشير في شكواه، وكانت تحتوي على أوراق رسمية وجوازات سفر وإقامات.
تكرار هذه الحوادث دفع المواطن إلى التساؤل عن فعالية الشكوى التي قدمها إلى قسم الأمن، إذ يبين أنه قدم بلاغاً، لكنه لم يتلقَّ أي معلومة، ويضيف: لا أشك في جهود الأمن، لكننا نحتاج إلى متابعة أسرع، لأن اللصوص يزدادون وقاحة يوماً بعد يوم.
جذور عميقة للمشكلة
يربط الاختصاصي الاجتماعي حيدر السلامة بين تزايد عدد هذه السرقات والظروف المعيشية الصعبة للمواطنين، ويشير خلال حديثه لـ “الثورة”، إلى أنه لا يمكن فصل الظاهرة عن التدهور الاقتصادي الذي يعاني منه كثير من الشباب حين تنعدم فرص العمل، وتتراجع القدرة الشرائية، وتغيب الرقابة المجتمعية، إذ يصبح من السهل أن يلجأ البعض إلى طرق غير مشروعة لتأمين دخل سريع.
ويضيف السلامة: رغم كون الدراجات النارية وسيلة نقل ميسرة، لكنها تحولت في بعض الحالات إلى وسيلة للجريمة، وخصوصاً في المناطق التي تفتقر إلى كاميرات المراقبة أو الدوريات الأمنية الكافية، منوهاً بضرورة الجمع بين الحلول الأمنية والاجتماعية لمعالجة المشكلة جذرياً.
حملات ميدانية
أمام تصاعد الظاهرة، أطلقت محافظة حلب خلال الفترة الماضية سلسلة من الإجراءات الأمنية والإدارية الحازمة للحد من انتشار الدراجات النارية غير المرخصة، والتي تعد المحرك الرئيسي لهذه السرقات، منها منع الدراجات غير المرخصة داخل المدينة، حيث أصدرت المحافظة، بالتنسيق مع قيادة شرطة مرور حلب، قراراً يقضي بمنع سير الدراجات النارية غير المرخصة داخل الأحياء السكنية اعتباراً من 26 آذار 2025، ومصادرة أي دراجة تخالف القرار.
وشددت المحافظة على أن المنع يشمل جميع الدراجات التي لا تحمل لوحات نظامية أو تفتقر إلى وثائق ملكية قانونية.
وفيما بعد سمحت المحافظة للدراجات المرخصة بالحركة ضمن ساعات محددة، من الساعة السادسة صباحاً وحتى الرابعة عصراً، على أن يمنع سيرها في بقية الأوقات.
كما نص القرار على فرض غرامات مالية وحجز الدراجة لمدة 30 يوماً في حال المخالفة، وتصل العقوبة إلى المصادرة النهائية في حال تكرار المخالفة.
دعوة للتعاون
كما نفذت وحدات الأمن الداخلي، بالتعاون مع وحدات المهام الخاصة، حملات أمنية موسعة في عدد من أحياء المدينة، شملت الجميلية والفرقان والسليمانية والمحافظة، إضافة إلى الطرق المؤدية إلى ساحة سعد الله الجابري، وتم خلال تلك الحملات ضبط عشرات الدراجات النارية المخالفة، بعضها استخدم في حوادث سرقة مثبتة بشهادات شهود.
تبعها إطلاق شرطة المرور، بالتعاون مع دوريات الأمن العام، نقاط تفتيش جديدة عند مداخل الأحياء التجارية والأسواق الشعبية، مثل سوق التلل وسوق الزبدية وشارع فيصل، لمنع تسلل الدراجات المخالفة إلى المناطق المزدحمة.
وكانت محافظة حلب دعت المواطنين إلى التعاون مع الأجهزة الأمنية، عبر الإبلاغ الفوري عن أي حالة مشبوهة أو دراجة نارية مخالفة، وأطلقت خطوط اتصال ساخنة لتلقي الشكاوى على مدار الساعة، وأكدت في بيانها أن “الأمن مسؤولية جماعية لا تكتمل من دون وعي المواطن ومشاركته”.
بين الأمل والحذر
رغم الترحيب الشعبي بهذه الإجراءات، يرى كثير من المواطنين أن التطبيق ما زال يحتاج إلى استمرارية وحزم أكبر، ورغم ملاحظة وجود دوريات في بداية الحملة، لكن بعد فترة خف انتشارها، و يطالبون برقابة دائمة، لا إلى حملات مؤقتة، لأن اللصوص ينتظرون فقط انتهاء الحملات ليعودوا إلى نشاطهم.
في المقابل، يلفت بعض الأهالي إلى أن الدراجات النارية، ليست جميعها وسيلة للجريمة، إذ يعتمد عليها كثير من العمال في تنقلاتهم اليومية، العامل “حسن دياب”، قال في حديثه لصحيفة الثورة إنه يعمل في توصيل الطلبات، ولا يملك وسيلة أخرى غير الدراجة، وإنه يتفهّم قرارات الأمن، لكنه يتمنى ألا يظلم الناس الذين يستخدمونها في كسب رزقهم. هنا، يؤكد الأخصائي الاجتماعي حيدر السلامة أن انتشار مثل هذه الجرائم يترك آثاراً سلبية عميقة على المجتمع، لأن الخوف الذي ينتاب الناس بعد كل حادثة لا يقلّ خطورة عن الجريمة نفسها، فهو يضعف الثقة العامة ويعزز الإحساس بالعجز. ويرى أن مواجهة الظاهرة تحتاج إلى حضور أمني مكثف، وتوعية إعلامية، وتحسين للظروف المعيشية حتى لا تتحول الحاجة إلى وسيلة للجريمة.
الطريق إلى حلب آمنة
إن ما تشهده حلب اليوم من تصاعد في جرائم السرقة المرتبطة بالدراجات النارية، لا يمكن اعتباره مجرد ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس لتحديات اقتصادية وأمنية متشابكة، إلا أن التحرّك الجاد من المحافظة والأجهزة الأمنية يمثل بداية طريق لاستعادة الشعور بالأمان الذي فقده كثيرون. ولعل تطبيق القوانين بحزم، وتفعيل الرقابة التقنية، وتعاون المواطنين، هي مثلث الأمان الذي يمكن أن يعيد إلى شوارع حلب طمأنينتها المعهودة، فالحملات الأمنية لن تؤتي ثمارها إلا إذا تحولت إلى ثقافة أمنية مستمرة، لا إلى رد فعل مؤقت على موجة من الجرائم. ويبقى الأمل أن تتوحد الجهود الرسمية والشعبية، وأن تعود المدينة التي صمدت في وجه الحرب والدمار لتنتصر هذه المرة على سرقات اللصوص، بإرادة أهلها ووعيهم، وبقوة القانون الذي لا يلين أمام من يعبث بأمنها.