الثورة – إيمان زرزور:
تمثل التطورات الأخيرة في مرفأي اللاذقية وطرطوس — من استقبال الباخرة العملاقة “NAVEGANTES” إلى وصول شحنات القمح الاستراتيجية — علامة فارقة في مسار التعافي الاقتصادي السوري بعد سنوات من العزلة والانكماش التي فرضتها الحرب والعقوبات.
هذه الخطوات، وإن بدت في ظاهرها عمليات تجارية روتينية، إلا أنها تحمل دلالات سياسية واقتصادية عميقة تتجاوز البعد اللوجستي إلى مؤشرات تحول في بنية الدولة وقدرتها على استعادة سيادتها الاقتصادية.
أولاً: المرافئ بوصفها بوابة التعافي الاقتصادي
تاريخياً، شكّل الساحل السوري الشريان التجاري الأهم للبلاد، حيث كانت مرافئ اللاذقية وطرطوس تربطان سوريا بأسواق أوروبا وشمال إفريقيا وشرق المتوسط، ومع توقف النشاط البحري خلال حقبة النظام البائد، انهار هذا الدور تدريجياً لصالح طرق تهريب غير شرعية وشبكات فساد ارتبطت بمراكز النفوذ الأمنية والعائلية.
اليوم، ومع استئناف استقبال السفن العملاقة وتفعيل منظومات العمل في المرافئ، تُرسل الحكومة السورية الجديدة إشارة واضحة إلى أن مرحلة الاستعادة الممنهجة للبنية الاقتصادية قد بدأت فعلياً.
واستقبال السفينة “NAVEGANTES” بطولها البالغ 222 متراً يبرهن على جاهزية البنية التحتية البحرية والتقنية لاستيعاب حركة تجارية عالمية، ويعيد الثقة تدريجياً بشبكة النقل السورية كجزء من الاقتصاد الإقليمي المتوسطي.
ثانياً: الأمن الغذائي كأولوية وطنية
وصول باخرتين محملتين بنحو 70 ألف طن من القمح إلى مرفأ طرطوس لا يندرج فقط ضمن إطار سدّ احتياجات السوق المحلية، بل يعكس استراتيجية متكاملة لإعادة بناء منظومة الأمن الغذائي التي تضررت خلال العقود الماضية.
ففي زمن نظام الأسد البائد، تحوّل استيراد القمح إلى ملف فساد معقد، خضعت فيه العقود لمضاربين وشركات وهمية، ما أفضى إلى أزمات متكررة في الخبز والطحين، أما اليوم، فإن إدارة الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية للملف ضمن إطار شفاف، وبإشراف حكومي مباشر، تمثل تحولاً جوهرياً من اقتصاد الاحتكار إلى اقتصاد الخدمة العامة.
ثالثاً: دلالات السيادة الاقتصادية واستعادة الثقة الدولية
من أبرز مؤشرات هذه الخطوات أنها تعكس قدرة الدولة السورية الجديدة على إعادة بناء شراكات تجارية دولية حقيقية بعيداً عن القيود السياسية السابقة، ودخول شركات شحن كبرى مثل CMA CGM إلى المرافئ السورية يحمل بعداً استثمارياً ذا دلالة، إذ يشير إلى أن البيئة البحرية والتجارية السورية باتت قابلة للتعامل الآمن والمستقر.
على المستوى الرمزي، فإن هذه التطورات تمثل استعادة جزئية للسيادة الاقتصادية السورية، إذ إن المرافئ كانت لعقود إحدى أدوات النظام البائد في التهريب والسيطرة الاقتصادية، أما اليوم، فهي تتحول إلى منصات وطنية للإنتاج والتبادل والتكامل الإقليمي.
رابعاً: مرافئ الاقتصاد لا مرافئ النفوذ
التحول الحقيقي في المشهد البحري السوري لا يكمن فقط في استقبال السفن، بل في التحول المؤسسي من إدارة أمنية مغلقة إلى إدارة اقتصادية احترافية، وهذا التحول يعكس فلسفة الدولة الجديدة التي تسعى إلى تحويل المرافئ من أدوات نفوذ سياسي إلى أذرع اقتصادية للنهضة الوطنية.
الشفافية في إعلان الكميات، وتحديد وجهات البضائع، والإشراف المباشر من لجان حكومية مختصة، كلها مؤشرات إلى قيام بنية اقتصادية حديثة تتأسس على مبدأ المساءلة والتدقيق، لا على الولاء أو الامتياز.
خامساً: نحو اقتصاد متكامل ومستدام
تُظهر بيانات الهيئة العامة للمنافذ استقبال 400 ألف طن من القمح منذ سقوط النظام البائد، وهو رقم يعكس ليس فقط حجم الجهود المبذولة بل أيضاً الانتظام المؤسسي في إدارة الموارد، وإذا ما استمر هذا النسق التصاعدي في الأداء، فإن المرافئ السورية يمكن أن تعود إلى موقعها الطبيعي كـنقطة توازن بين التجارة الداخلية والإقليمية، ما يعزز قدرة سوريا على استعادة استقلالها الاقتصادي والسياسي في آن واحد.
يمكن القول: إن ما يجري اليوم في مرافئ اللاذقية وطرطوس يتجاوز كونه تطوراً فنياً أو تجارياً؛ فهو جزء من مشروع وطني لإعادة الاعتبار إلى البنية الاقتصادية السورية، وتحويلها إلى نموذج للحوكمة الفاعلة بعد سنوات من الفساد والإهمال.
ويمثل إعادة تشغيل المرافئ وفق معايير مهنية، وضبط حركة السلع الأساسية، وتفعيل برامج الأمن الغذائي، ركائز في بناء الدولة الجديدة التي تسعى لتثبيت مكانتها في الشرق الأوسط بوصفها دولة منتجة، مستقلة، وقادرة على إدارة مواردها بشفافية وكفاءة.