الثورة – ثورة زينية:
بدأت مديرية هندسة المرور في محافظة دمشق مؤخراً بأعمال تنفيذ وتركيب مواقف سيارات جديدة في منطقة فكتوريا كخطوة ميدانية تهدف إلى تنظيم عملية الاصطفاف وتسهيل التنقل في واحدة من أكثر مناطق العاصمة ازدحاماً وحيوية، إضافة لتركيب شاخصات مرورية جديدة في محور ابن عساكر لتعزيز وضوح المسارات والإشارات وتقليل الحوادث و تسهيل حركة المشاة .
وبحسب ما أعلنت عنه المحافظة فإن هذه الإجراءات تأتي ضمن خطة أشمل لتحسين الخدمات المرورية، وتطوير البنية التحتية للنقل بما ينعكس إيجاباً على انسيابية الحركة ويرفع من جودة التنظيم في الشوارع العامة.
إن تركيب مواقف وشاخصات جديدة قد لا يغير المشهد العام بين ليلة وضحاها، لكنه يؤشر إلى أن هناك بداية وربما نية لطرح الأسئلة الكبرى: كيف نعيد تنظيم المدينة لتكون صالحة للمشي وليس فقط للقيادة ؟ وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل الفوضى؟ والأهم متى يصبح تنظيم المرور أولوية لا إجراءً شكلياً؟
فعند كل صباح وعلى امتداد المحاور الرئيسية تتكدس السيارات في طوابير طويلة وتختنق المحاور الطرقية وتبدأ ساعة الانفعال، وكأن التنقل في شوارع المدينة قد تحول إلى اختبار أعصاب دائم.
ساحة انتظار مفتوحة
مصدر في مديرية هندسة النقل والمرور بمحافظة دمشق قال لـ”الثورة”: قد ينظر إلى تركيب المواقف وغيرها من الإجراءات التي تقوم بها المديرية كمبادرة بسيطة للوهلة الأولى إلا أنها تكتسب معنى أعمق حين توضع ضمن سياق أوسع تسعى فيه المدينة لإعادة تعريف مفهوم الحركة والتنقل فيها، فدمشق لا تزال تعتمد على شبكة طرق تقليدية ونقل عام مترهل وحلول آنية لا ترتقي إلى مستوى الأزمة المتفاقمة، لكن هذه الإجراءات اليوم تعتبر بمثابة حلول إسعافية بانتظار الوصول لحلول استراتيجية .
وأوضح :المشكلة تتعمق حين نلاحظ أن التوسع العمراني في دمشق قد سبق بكثير أي تحديث في البنية المرورية والضواحي التي أنشئت على عجل لاحتواء الكثافة السكانية الجديدة لم ترفق بشبكات طرق مناسبة أو وسائل نقل فعالة، فكان الحل العفوي سابقاً هو الاعتماد المفرط على السيارات الخاصة، مضيفا: هذا أدى إلى مضاعفة الضغط على شبكة طرق لم تكن معدة أساساً لتحمل هذا الكم من المركبات، فازداد التزاحم وتراجعت فاعلية النقل العام وتحولت المدينة إلى ما يشبه ساحة انتظار مفتوحة.
ولفت إلى أنه في المقابل فإن منظومة النقل الجماعي تعاني من ضعف واضح سواء من حيث التوزع الجغرافي للمسارات أو انتظام الخدمة أو حتى جودة وسائط النقل المستخدمة، ولعل غياب للبنية التحتية الداعمة كالمحطات المنظمة أو المسارات المخصصة للباصات زاد من تهميش هذا القطاع، على الرغم من أنه يشكل في الأساس العمود الفقري لأي منظومة نقل ناجحة في المدن الكبرى، مؤكداً أنه لا يمكن تصور تخفيف الازدحام من دون إحياء فعلي للنقل الجماعي يترافق مع سياسات تشجع المواطن على استخدامه بدلاً من الاعتماد الكامل على سيارته.
وأضاف في نهاية حديثه: في مدينة يستهلك سكانها ساعات طويلة من يومهم على الطرقات يصبح الإصلاح المروري أكثر من مشروع خدمي، إنه مسؤولية أخلاقية وحضارية وجزء أساسي من بناء مدينة قابلة للعيش.
توقيت تقليدي لا يتغير
يرى الأكاديمي المتخصص في هندسة النقل بدر الحناوي أن هندسة المرور كمجال تخصصي لا تقتصر على تنظيم إشارات ضوئية أو إنشاء جسور علوية، بل هي منظومة متكاملة تبدأ من التخطيط الحضري مروراً بإدارة البيانات المرورية، وصولاً إلى تطوير وسائل النقل الجماعي وربطها بتقنيات حديثة، موضحاً: في دمشق يبدو هذا المفهوم غائباً أو مؤجلاً كما لو أن تنظيم الحركة يتم بمنطق رد الفعل لا المبادرة، فالطرقات ذاتها منذ عقود والإشارات تعتمد غالباً على توقيت تقليدي لا يتغير، فيما تغيب أنظمة المراقبة الذكية التي تستخدم في مدن أقل ازدحاماً وأكثر تنظيماً.
إن تحسين الواقع المروري في دمشق يتطلب أن تتحول الخطوات الجزئية إلى رؤية شاملة كما يرى الخبير الحناوي، مضيفاً: تشترك فيها الجهات الحكومية مع الخبراء المحليين والجامعات والمجتمع المدني، لبناء نموذج مرور إنساني ومتطور يراعي تفاصيل الحياة اليومية، ويستند إلى تقنيات المدن الذكية بدلاً من الركون إلى إدارة يدوية لم تعد قادرة على مواكبة تعقيد المشهد المروري في مدينة بحجم وتاريخ دمشق، موضحاً: ففي شوارع العاصمة دمشق لم يعد الزحام حدثاً طارئاً، بل أصبح جزءاً من النظام اليومي للحياة، وهذه الصورة المتكررة ليست نتيجة طبيعية لازدياد عدد السيارات فقط حسب وصف الخبير، بل نتيجة مباشرة لغياب مقاربة علمية لهندسة المرورو فشل في مواكبة التغيرات الديموغرافية والعمرانية التي شهدتها العاصمة في العقدين الأخيرين.
بيانات غائبة = قرارات عشوائية
وأكد أن الخطوة الأولى لحل الأزمة تبدأ بتوفير بيانات حقيقية عن حركة السير وأنماط التنقل وتوزع الرحلات اليومية، مضيفاً: لا يمكن لأي مدينة أن تطور نظامها المروري من دون أن تفهم كيف يتحرك سكانها ومتى ولماذا، فالبيانات الغائبة تعني قرارات عشوائية، ومن المفترض أن تتاح أدوات رقمية لمراقبة الحركة بشكل لحظي وتحليلها من أجل بناء خطط مرورية واقعية تستند إلى الوقائع لا التقديرات.
ويستدرك المهندس الحناوي: لكن المشكلة الأعمق قد لا تكون في نقص الإمكانيات فقط، بل في غياب الإرادة المؤسسية لإعادة تعريف العلاقة بين المدينة وسكانها، فالعاصمة ليست مجرد مساحة عمرانية بل كائن حي يتنفس من خلال شرايينه المرورية، وإذا تعطلت هذه الشرايين فلا غرابة أن تضعف حيويتها ويختل إيقاعها، ولهذا لا يكفي ترقيع الطرق أو توسعة بعض الشوارع على نحو جزئي، بل لابد من مشروع حقيقي لإعادة هندسة دمشق بما يليق بحجمها وتاريخها ومستقبلها.
حلول ذكية و تكنولوجية
وشدد على أن ما تحتاجه دمشق اليوم ليس حلاً مؤقتاً، بل استراتيجية شاملة تشرف عليها جهات علمية ومهنية تراعي خصوصيتها وتستفيد من تجارب المدن التي واجهت تحديات مشابهة ونجحت في تجاوزها عبر حلول ذكية و تكنولوجية وتخطيطية، موضحاً: الأزمة ليست قدراً بل نتيجة، وما يمكن تحليله يمكن معالجته، ولكن هل هناك من يصغي؟ وهل سنبقى نحمل السائقين وحدهم مسؤولية فوضى لم يصنعوها بل وجدوا أنفسهم مجبرين على التعامل معها يوميا؟.
ويختتم حديثه: في ظل الصمت الطويل تبدو إشارات المرور أكثر انضباطاً من السياسات المتبعة، ومع استمرار الحال على ما هو عليه قد نحتاج يوماً لإعادة تعريف الحركة في دمشق ليس كتنقل بل كأمنية مؤجلة، منوهاً بأن الاختناق المروري لم يعد عائقاً أمام الوصول إلى الوجهات فحسب، بل أصبح عائقاً أمام الإحساس بأن المدينة تنتمي إلى القرن الحالي، فغياب التنظيم وتراجع ثقافة احترام الرصيف،وانعدام ممرات المشاة الآمنة، كلها عوامل ساهمت في تحويل الشارع من فضاء مدني إلى مساحة فوضوية تهدر فيها الطاقة والوقت وكرامة الإنسان.