ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير علي قاسم:
لا تتوقف التداعيات الناتجة عن الحماقة التركية غير المسبوقة، على ما ظهر من مشاهد متدرجة مع ما تكشفه التفاصيل اللاحقة من رسائل مباشرة وغير مباشرة، بقدر ما ترتبط بما هو محتمل في سياق ما يتراكم في الزوايا الخلفية وعلى الجبهات غير المنظورة، التي تؤشر إلى ارتدادات تتجاوز ما جرى.
فالعدوان التركي الموصوف والمتعمد لا يدخل في إطار الخطأ غير المقصود، ولا هو منفصل عما يوازيه من مواقف وتطورات، سواء تلك التي سبقته على المستوى السياسي، أم تلك المرتبطة بجملة من الخطوات الاستفزازية التي بدت وكأنها في سياق واحد ومن جبهات متعددة، لم تكن الخطوة الاوكرانية بقطع الكهرباء عن القرم خارجها.
فيما تقف الاستحقاقات السياسية الإقليمية وما يرتبط بمسار الجهود السياسية على الجبهة ذاتها، التي تحاكي وضعاً لا يقل في خطورته ولا في تصعيده عما نشهده من تطورات ميدانية، تدفع إلى الكشف عن آخر ما في السلال الغربية من بقايا نتف النفاق السياسي والمراوغة، حيث الحديث عن جهود توحيد ما يسمى المعارضة ولائحة التنظيمات الإرهابية يقود إلى الاستنتاج ذاته بمنظور الفهم الحقيقي لأسباب وخفايا الحماقة التركية.
وجاءت ردود الفعل الغربية على الحادثة وما فيها من حالة التباس في المضمون كما هي في الطرح لتترك الباب مفتوحاً على تأويلات أقلها أنها لا تجاري تركيا في أمانيّها، وإن لم تصل إلى حد التبرؤ من فعلتها تجاه روسيا، رغم تعمدها التخفي خلف مصطلحات تكاد ترسم سياقاً إضافياً للتصعيد وخطوط مختلفة ومعادلات متباينة لا تتطابق بالمطلق مع ما هو سائد حتى لحظة سقوط الطائرة، تحديداً ما يخص التعليقات التي صدرت عن الإدارات الغربية المختلفة، التي بدت في أغلبها خالية من مشهد المفاجأة أو الحدث غير المتوقع، وإن حاول بعضها إضافة المزيد من الأحجيات والطلاسم في ردة فعله الأولى.
الأخطر ما يتسرب من خلف أروقة السياسة التركية من معطيات تتحدث بأن تركيا لم تكن في فعلتها تلك، ترسم خطوط تماس ذاتية انطلاقا من وحي رغبتها، بقدر ما كانت ناقلاً -غير مخول بأبعد من ذلك- لرسائل أميركية وغربية متعددة الاتجاه، وتحاول أن تخط على الأقل خربشات غير مفهومة لخرائط إضافية للمواجهة، بين ما يجري على الأرض وما جرى في السياسة من توافقات، على أن تكون حكومة أردوغان خطاً أمامياً تتمترس خلفه المواقف الغربية، إلى حين تنتهي من وضع الإحداثيات الجديدة على خطوط الاشتباك الناشئة.
ربما لم يكن أحد يستطيع أن يحدد بدقة ما هي ردة الفعل الروسية والأمر لا يزال سارياً حتى اللحظة، وسيبقى في سقوفه الزمانية والمكانية رهناً بتطورات لم تفصح عنها كل الأحاديث الروسية، وإن أظهرت جزءاً من عناوينها، في حين التفاصيل المتعلقة بترجمتها لا يستطيع أيّ كان أن يتخيل حدودها ولا مساحتها، باعتبار أن ما ظهر حتى اللحظة لا يشكل سوى عينة من معادلات إضافية تقوم الدبلوماسية الروسية وإدارة الكرملين بتحبير نقاطها على خرائط تتحرك وفق حسابات ومعادلات لا تشبه ما سبقها في شيء، ولم تتقاطع معه حتى في جزئياته الظاهرة حتى الآن.
فروسيا التي تجيد قراءة الرسائل الغربية وتتفحص بدقة ما ورد بين سطورها تركياً، تتقن إلى حد بعيد مساحات الرد وأشكاله، وهي تعي ما تُخفي خلفها، كما تدرك ما بان وما ظهر قبلها، والربط هنا ليس سياسياً بحتاً ولا هو دبلوماسياً محضاً، بقدر ما سيكون خليطاً متكاملاً وسلة جامعة لكل الاحتمالات القائمة، وما تبرزه في سياق ما أحدثته المغامرة التركية ومَن دفعها في هذا الاتجاه، وهي ترسم خطوطاً متقاطعة من الإضافات النوعية وربما التحولات والانعطافات التي تجزم بحتمية الحراك الروسي إلى حدود غير مسبوقة .
لا أحد لديه أي أوهام بأن الحماقة التركية أسقطت ما سبقها وألغت الكثير من تنبؤات ما بعدها، حيث لا يمكن الركون إلى ما تحدده التطورات وما ترسمه سياقات المواجهة سواء كان على الأرض أم في السياسة، حيث الميدان لأول مرة وربما منذ بداية الأحداث في المنطقة، تحديداً في سورية يحاكي في الجغرافيا ما يصلح ليكون عنواناً منفصلاً ومستقلاً بذاته، كما يدرج في ملفات السياسة ما يمكن أن يُعدّ فصلاً مستقلاً من فصول المواجهة بين الغرب والشرق، وإن لم تحسم حتى اللحظة مواضع الاشتباك النهائية.
فالكرة المتدحرجة ترسم خطوطاً متعرجة لكنها غير متقاطعة، ولا تلتقي في سياقات تقليدية معروفة، وإن كانت في بدايتها، فيما محاولات الغرب امتصاص أو استيعاب ما قد يأتي لاحقاً من ردود روسيا ليس أكثر من تأجيج إضافي تتحسب له السياسة التركية، لكنها عاجزة عن مجاراته، وما عليها إلا انتظار فاتورة ستدفعها من جيب تهورها ومن حساب حماقتها، التي أغرقتها ظواهر الغرب الصوتية، بما فيها استعراضات الناتو المخيبة لأنقرة، فباعتها شيكات لا رصيد لها في السياسة.. ولا قيمة في التحالفات.. ولا معنى في اتفاقات الكواليس.. بعيدها وقريبها.
a.ka667@yahoo.com