ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
اضطرت مجلة نيوزويك أن تسحب مئة وخمساً وعشرين ألف نسخة من عددها الأخير، بعد أن صدرت بالتزامن مع الانتخابات الأميركية، وعلى صدر صفحتها الأولى صورة كبيرة للمرشحة الديمقراطية كُتِبَ تحتها: «الرئيسة الأميركية»..
والمفارقة أن العدد وصل إلى المكتبات والأسواق مع النتائج الصادمة التي أعلنت فوز ترامب وخسارة كلينتون.
وما حصل مع المجلة الأميركية الأشهر يكاد ينسحب على مختلف وسائل الإعلام الأميركية، التي عنونت أخبارها في يوم الانتخابات وحضَّرت المانشيتات، ولم يتردد بعضها في تهيئة الخلفيات اللازمة والداعمة لما اعتبر بحكم الأمر المنتهي، حتى إن بعضها كان يتساءل على مواقعه الإلكترونية عن مبررات بقاء مناصري ترامب أو مسوغات انتظارهم، وربما كان بمقدورهم أن يحسموا النتيجة فعلياً لو أن الأميركيين الذين تأخروا في الإدلاء بأصواتهم أخذوا بما ذهب إليه الإعلام الأميركي، الذي مارس سياسة تضليل وربما تيئيس غير مسبوقة على النطاق الأميركي وسواه.
الحال ذاته طبعاً حدث مع كبار المحللين المعتمدين في مراكز البحوث واستطلاعات الرأي، كما مع نظرائهم الذين احتلوا شاشات التلفزة الأميركية وعلى مدار الساعة، ليصلوا في نهاية المطاف إلى ما يشبه الصدمة التي أعقبت الحسم المبكر للمعركة، وتحديداً بعد أن تحولت النتيجة كابوساً في اتجاهين، الأول: بفوز ترامب وما يعنيه من سقوط مريع للتحليلات، والثاني: عبر فقدان الكثير منهم أهليته للدور والموقع الذي كان يراهن عليه في حال فوز كلينتون.
يبدو من الصعب تخيل أن الامبراطوريات الإعلامية الأميركية يمكن أن تسقط بهذا الشكل المريع، أو كما قالها البعض بالضربة القاضية، لكن أمام الواقع القائم ينحو الكثيرون على وصفه بالسقوط المريب، الذي تقف خلفه وأمامه وعن يمينه وشماله حسابات ومعادلات، وربما أطراف وقوى تعيد بلورة وجودها في الداخل الأميركي قبل سواه، وهي في كل الأحوال ليست معزولة عن سياقها العالمي، حتى لو ادعت غير ذلك، بدليل أن سقوط الإعلام الأميركي قابله على الفور ما يشبه الانهيار في المنظومات المرتبطة مباشرة بوجود ذلك النسق من العلاقة.
على الضفة الأخرى سيكون الأكثر صعوبة إقناع أحد بأن هذه المنظومة، التي بنت أمجادها في الماضي والحاضر وتؤسس عبره للمستقبل، هشة إلى هذا الحد، وأن خسارتها معركة لا يعني أنها في طور التراجع، بل يذهب أغلبهم إلى اعتبارها منفصلة تماماً عن سياق الجذر الذي يمتد عميقاً في الوجدان الغربي رغم عدم الاعتراف أو الإقرار بأن المنظومة ككل باتت تعاني من ترهل واضح في سياق المقاربة.
الواضح أن السقوط ليس فعلاً ذاتياً منعزلاً ولا موضوعياً خالصاً، وتصح فيه مختلف المقولات الدارجة التي تتفق جميعها على نقطة أساسية بأن الإعلام «الميديا والبروباغندا» تواجه معضلة حقيقية، وقد تكون في بداية مسار مشكلة لم تنته هنا، وليست بوارد أن تغلق الباب على ما جرى، خصوصاً أن العقد الأخير ونصفه الثاني على وجه التحديد حقق ما يشبه النجاحات الخارقة على مستوى التأثير، حتى بات الإعلام شريكاً مباشراً في الحروب التي شنتها المنظومة الغربية، وفي بعضها كان طرفاً وحيداً يخوض المعارك والحروب ويسجل الانتصارات من دون الحاجة إلى طلقة واحدة، وما جرى في المنطقة العربية قد يحتوي على عشرات الأمثلة الصادمة، التي ساهم فيها الإعلام بانهيارات.. وتمكنت منظوماته المختلفة من تسجيل ما يشبه الاكتساح لسائر الأدوات والنماذج الأخرى.
الأوضح من ذلك أن ما جرى قد يكون تمهيداً موضوعياً لبدء انهيار منظومات من الأكاذيب الكبرى، وربما يصلح ليكون بداية عصر جديد تنتفي فيه مشاهد الحضور المبرمج لتلك الأكاذيب، حيث الفارق بين منظومة وأخرى لا يوفر مساحة أمان كافية، وأن العدوى التي أصابت الإعلام الأميركي وسقطته المدوية سواء كانت مريبة أم مريعة أم أي شيء آخر، تفتح الباب على مصراعيه أمام انتقال تلك العدوى وبأعراض مرضية أكثر مما شهدناه في الإعلام بحكم عوامل الارتباط الوثيق مع منظومات الأكاذيب الأخرى التي حضرت بقوة في النصف الأخير من عقد السنوات الماضية.
السقوط ليس في التوقعات ولا في الاستنتاجات، بل في الاستقطاب الذي أنتجه ذلك الإعلام، وحاول أن يشكل من خلاله حالة استلاب للمجتمع الأميركي قبل سواه، ولتكون المجتمعات الأخرى في تصنيف الضحايا مجرد فرق عملة بين صراعات تطفو على السطح الأميركي، وإشهارها اليوم ليس سوى غيض من فيض قادم، أو عاصفة داخل إعصار يتحضر الداخل الأميركي ليكون الشاهد الأول عليه.
a.ka667@yahoo.com