ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
فرضت أصوات الناخبين الأميركيين التغيير، ورجحت كفة الحالة الاستثنائية التي ستتحول في العرف الأميركي إلى قاعدة يمكن البناء عليها لاحقاً، خصوصاً أنّ هذا التغيير ليس مطلباً للطبقة السياسية التي أدمنت حالة الترهل القائمة،
بقدر ما هو توجه أميركي له أبعاد اجتماعية أكثر قسوة من تلك التي طفت على السطح في التحليلات المتسرعة، التي أعقبت الإعلان عن نتائج الانتخابات بعد يوم ماراثوني طويل شهد تبدلات صادمة للتوقعات والتخمينات والتحليلات.. وصولاً إلى الاستنتاجات، ولا تزال تفاعلاتها مستمرة، ومن المستبعد أن يقفل عليها الباب في المدى المنظور.
والتغيير هنا ليس في اختيار بدائل غير تقليدية، بل في سياق التوجه نحو مقاربة تحاكي هواجس حقيقية لدى شرائح واسعة من المجتمع الأميركي، الذي تريد قاعدته أن تتلمس مساحات التغيير الفعلية، بعد أن فقدت شعارات اللوبيات والاحتكارات الأميركية فعاليتها ولم تعد تجد لها سوقاً رائجة لدى تلك الشرائح إثر تجارب غير مشجعة على مدى عقود خلت، مضافاً إليها كمٌّ لا ينتهي من اليأس الممزوج بخيبة من الممارسات المتخمة بفوقيتها للطبقة السياسة المترفة.
ردود الفعل العاصفة على وصول ترامب إلى البيت الأبيض تعكس التباين الحاد في النظرة إلى المشهد الأميركي، والاختلاف في تقييم الأداء الذي بدا للبعض منسجماً مع دوره الوظيفي ومتوافقاً مع رغبته في البقاء خلف متاريس الهيمنة الأميركية، وإن كانت في أغلبها تترجم مفاجأة غير متوقعة في سياق حالة الاستلاب التي مارستها مؤسسات الإعلام، كما وقعت تحت سطوة خديعتها مراكز تسويق اللوبيات والضغط التي أوحت بنتيجة مغايرة لما آلت إليه الأمور.
الواضح أن ترامب يمثل مشهداً غير تقليدي دفع بأغلب الحسابات إلى زوايا ضيقة حشرت داخلها معظم التكهنات، إلى درجة باتت معها المعادلات المرسومة سلفاً بحاجة إلى إعادة تصويب ومراجعة ناتجة عن الحاجة إلى فهم أعمق للحالة الأميركية التي أنتجت ترتيبات المشهد، بحيث وقع أكثر التحليلات والتنبؤات في فخ المغالطة، وبات من العسير عليها أن تكتفي بالمراجعة لأدواتها ووسائلها، وهي ترسم خطاً بيانياً متصاعداً تزداد هوة التباعد بين منعكساته على الواقع الأميركي.
وإذا كانت بعض تلك ردود الفعل مفهومة بحكم ما أحدثته الصدمة من تداعيات غير محسوبة في الأجندات الأميركية، وتبدلات واضحة في أولويات العهد الأميركي الجديد، فإن الإظهار المتعمد للخيبة التي ارتسمت في حسابات ومعادلات دولية وإقليمية تدفع إلى الجزم بأن الانهيارات اللاحقة لن تقتصر على البورصات وأسعار العملات والنفط والذهب، بل ستمتد لتشمل أكثر المسلمات البسيطة في العلاقة الأميركية مع الآخرين، بحيث يكون الاهتزاز هذه المرة عمودياً وأفقياً إلى الحد الذي يلغي إرثا من العلاقة الأميركية التقليدية بجوانبها المختلفة.
لكن هذا لا يعني أن الصدمة ليس لها ما يبررها، وليس هناك أيضاً ما يؤكد أن السياق الأميركي بمقدوره أن يجاري ما طرحه ترامب من أفكار وخطط قابلة للتعديل والتغيير، هذا إذا لم تكن مؤهلة للنسف من أساسها بحكم ما يفرضه ذلك الإرث من عوالق تمنع إلى حد بعيد إمكانية المغامرة أبعد من حدود الاستنتاج والتحليل، وبحكم الحالة الأميركية المستعصية التي راكمت عشرات الأسباب والدوافع لمنع الانزلاق خارج كانتونات العلاقة التي قامت على الشبهة ونظام الصفقة وأسلوب المبازرة حتى فيما يتعلق بالقيم الأميركية، التي شهدت فصلاً من المشادات غير المسبوقة، واستعادت مفردات تتحرج منها أبسط الديمقراطيات في العالم.
التغيير الأميركي بات أمراً واقعاً، سواء جاء قسرياً أم برغبة الأميركيين، فيما الهزات الارتدادية تتواصل تباعاً، حيث الحذر الممزوج بشيء من التوجس لا يزال يحكم ردود الفعل المصدومة، وريثما يتبين الخيط الأبيض من الأسود في سياسات ترامب يكون تسونامي التغيير قد أخذ موقعه ومساحته، وقد يكون في بعض جوانبه على مقاس ما وصل من رسائل أميركية، سواء كانت مشفرة ومضمرة أم مباشرة وواضحة، وربما على ضوئها نتلمس حدود الفارق بين أميركا ما قبل التغيير وما بعده، وإن كان عنوانه يكفي للحكم على مساحة التسونامي التي بدأت تباشيرها الأولى على كل من راهن ووضع أوراقه في سلة الهيمنة الأميركية.
a.ka667@yahoo.com