ثورة أون لاين – بقلم رئيس التحرير: علي قاسم:
لم تنتهِ مفاعيل رؤية روسيا السياسية، بل إنها في بعض جوانبها لم تبدأ عملياً، وإن كانت مرتسماتها على الأرض قد سبقت الرسالة السنوية التي وجهها الرئيس فلاديمير بوتين إلى الجمعية الفيدرالية الروسية، حيث التفاعل السياسي معها لن يرتبط بالضرورة بما ساقه الإعلام
، وإن حاول الغربي منه أن يتجاهل الكثير من التفاصيل الواردة في سياق المقاربة الروسية التي تضمنتها تلك الرؤية بعناوينها كما هي في التفاصيل.
الواضح أن الغرب لم يفاجأ بما ورد في الرؤية الروسية، وأن مراكز القرار الغربية كانت قد وضعت في سياق تحليلاتها ما يقاربها أو ما يبنى عليها، بحكم أن الكثير مما تطرقت إليه الرؤية كان قد وجد طريقه إلى التحليلات والقراءات الغربية، التي تناولت السياسة الروسية في الحقبة القادمة على ضوء النتائج الأولية للاشتباك الحاصل على حلبة التجاذب الدولي، لكنه في الوقت ذاته لم يخفِ جوانب خشيته من التطور الفعلي في المقاربة الروسية، وصولاً إلى ترتيب الأولويات الذي بدا متسقاً ومنسجماً بصورة كلية مع ما ذهبت إليه ترجمتها على أرض الواقع.
وهذا يتقاطع مع مجمل التطورات العاصفة التي يشهد عليها السجال القائم مع الأميركيين والأوروبيين على حد سواء، في ظل جنوح سياسي دولي يتناغم مع الوضع الجيوسياسي الجديد المتشكل على الخريطة العالمية، والذي أفضى تلقائياً إلى إقرار غربي ضمني بأن الأحادية القطبية لم تعد حاضرة إلا في ذهنية بعض ساستها، ممن يعيشون في الماضي أو على أمجاده الغابرة، ولا يريدون الإقرار بأن زمن تلك الأحادية إلى أفول، وأن الرؤية الروسية تترجم هذا المنحى بشكل لا لبس فيه ولا غموض وإن بدت أقرب إلى التموضع وفق قاعدة السياسة الروسية المعتمدة التي تحاكي مبدئية الالتزام بالقانون الدولي.
اللافت وفق هذه المقاربة أن الرؤية الروسية تستعيد مصطلحات كادت تغيب عن الخطاب الدولي، وتضيف إليه مفردات لم يكن أحد بمقدوره التخيل أن المشهد الدولي يمكن أن يتقبلها بعد سنوات من الهيمنة الغربية، ولم يكن متاحاً أصلاً أن تدرج في سطور ذلك الخطاب، وهي في أغلبها مشتقة من معاناة مريرة وصعبة كادت تخفيها الهيمنة الغربية من مداولات السياسة الدولية، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالقانون الدولي ومنزلقات الازدواجية في التعبير والتصريح، وإن كان الأهم عودة الحياة للكثير من الشعارات التي تآكلت في حقبة الهيمنة الأميركية، ومنها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادتها.
السياق الأكثر تداولاً في الرؤية الروسية يدفع بالجدل إلى ما هو أبعد من بعض المصطلحات والألفاظ المحكومة بكثير من التأويل، وستجد مختلف التحليلات نفسها مضطرة للخوض في تفاصيل ما ورد، بما في ذلك تلك التي تحكمها معادلة ما بين الأسطر، والتي تؤشر بوضوح إلى أن روسيا ليست دولة كبرى وعظمى فقط، بل هي أيضاً مساهم فاعل وأساسي في المشهد الدولي، وركن لا يمكن تجاهله في بناء النظام العالمي الجديد، سواء تشكل على أساس ثنائي كما كان في عهود سابقة أم اقتضت الضرورة أن يكون متعدد الأقطاب، كما تشير المعطيات والتمنيات في الآن ذاته، بحكم أن التعددية ربما ساهمت في التخفيف من حدة الاستقطاب، وقد تتمكن من ترميم العلاقات الدولية التي تضررت بفعل الاستفراد الأميركي، وصولاً إلى استعادة المصداقية للشعارات التي تهاوت في الحقبة الأميركية إلى الحضيض.
ما يميز الرؤية الروسية أنها تحاكي المشهد السياسي العالمي من بوابة الواقعية السياسية، ومن قلب خضم التجارب التي خاضتها روسيا في السنوات الماضية، ومن التحديات الكبرى التي واجهتها، بما فيها التهديدات وحالة العدائية التي مارستها ضدها الدول الغربية، فكان التعاطي الروسي الإيجابي والمسؤول مع الأخطار التي تهدد الاستقرار العالمي وفي مقدمتها الإرهاب وداعموه وممولوه الذين باتوا يشكلون خطراً أكبر بكثير من خطر الإرهاب ذاته، بحكم أن القضاء على الإرهاب ومحاصرته تمهيداً لاجتثاثه معمول به، وتم تحقيق إنجازات فعلية على الأرض من خلال الدعم الروسي لسورية والمساندة والمساهمة المباشرة فيه من خلال خطوات شكلت نقطة تحول مفصلية.
على المنوال ذاته تبدو الرؤية الروسية الجديدة نقطة انعطاف وتحول مفصلي أيضاً في السياسة الدولية، وما كتب عنها وسيكتب سيطول به المقام على صفحات الإعلام وداخل تقارير مراكز الدراسات والبحوث، كما سيكون حاضراً في مختلف مراكز صنع القرار السياسي على مستوى الدول.. غربها كما شرقها.. وشمالها مع جنوبها، وتدعمه في هذا السياق سلسلة الخطوات التمهيدية التي أقدمت عليها روسيا لتجد مرتسماتها الفعلية بين سطور العقيدة الجديدة التي أطلقتها قبل حين وأعادت تجديدها في رؤيتها هذا العام.
الرؤية الروسية لا تكتفي برسم حال روسيا وموقعها ودورها، بل تؤسس لقراءة المشهد الدولي بتفاصيله المقبلة، وتعطي ضمانات مكتوبة تحول دون انزلاقات خطيرة في الفترة الانتقالية بين نظامين وحقبتين، وهي ليست مجرد وجهة نظر حيادية، بل ترسم ومن موقع الخبرة المكتسبة، إحداثيات العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الأحادية القطبية ومفرزاتها والفراغات الناشئة على هوامشها، كما هي في قلب النظام العالمي، بما فيها تلك الناتجة عن المتغيرات الأميركية بوصول ترامب.. والفرنسية القادمة.. والألمانية المحتملة وسواها، حيث ترسم خطاً بيانياً متصاعداً يؤشر إلى تلك المتغيرات ويأخذها بالحسبان، لكنه لا يجزم بها، ولا يراهن عليها بشكل مجرد، بقدر ما يتعاطى معها على أساس الواقعية السياسية التي تشكل في نهاية المطاف خطاباً عقلانياً يتعاطى مع مرتسمات السياسة ويأخذ بتطوراتها، ويفرض وفقاً للخرائط المتشكلة إيقاع الحراك الدولي بحلته الجديدة.
a.ka667@yahoo.com