ثورة أون لاين كلمة الموقع بقلم العميد الدكتور أمين محمد حطيط
عندما أطلقت اميركا ومعها الغرب تسمية «الربيع العربي» على ما جرى من تحرك ومواجهة مع الانظمة القائمة في بعض البلدان العربية، حاولت أن توحي بأن «التحركات» هذه (ورغم أنها أتت في بعض الحالات ضد انظمة تدعمها)
هي «ثورات حقيقية» من أجل الحرية والعدالة التي يزعم الغرب تمسكه بها ويدعي أنها جزء رئيسي من القيم التي يعتمدها ويسعى الى نشرها، لذا وبعد أن تظاهر الغرب بأنه فوجئ بالامر سارع لاحتوائه وتوجيهه حيث يريد . ولقد وقع الكثير من الاطراف العاملين في السياسة او الاعلام او حتى في المجال الفكري، وقعوا في الفخ فساروا مع الغرب و اعتمدوا مصطلحه، وتحمسوا له الى رافضين حتى انتقاد العبارة.
لكن و مع هذا الحماس للمصطلح، استمر فريق واسع من المفكرين والباحثين الموضوعيين يرى ان عبارة «الربيع» لا تتلاءم مع الواقع والنتائج التي اسفرت عنها تلك الحركات خاصة اذا توقفنا عند المشهد المؤلم القائم في الاقطار التي عصفت فيها رياح «الربيع» المزعوم والتردي الذي أصاب بنية الدولة فيها والمستوى المعيشي المتدهور لابنائها فضلا عن التبعية و الارتهان للغرب من قبل الانظمة المستحدثة.
وإذا قفزنا فوق ما يجري في تونس من اضطرابات اعقبت اقامة «سلطة الاخوان» فيها، وما تتخبط فيه ليبيا من مشاكل و اختلال في الامن والاستقرار و نهب للثروة الوطنية في ظل «شبه السلطة» التي اقامها الناتو بعد قتل 150 ألفا من ابنائها اثناء عملياته التي ادعى انها كانت لـ «مساعدة الثوار» على التخلص من حكم معمر القذافي، فإننا نتوقف عند المشهد المصري الذي يمكن و بالتحليل الموضوعي معرفة حقيقة هذا «الربيع المزعوم»، للتمكن من استخلاص العبر واسقاطها على امكنة اخرى خاصة سورية ومسار المواجهات فيها.
لقد سارعت اميركا لاحتواء الحركة السياسية في مصر ووضع اليد عليها بعد «الانتفاضة» ضد حسني مبارك، قامت بذلك بعد أن ادركت انها لن تقدر على متابعة العمل مع ذاك الرئيس فأوحت له بأنها تخلت عنه ما اضطره لمغادرة الرئاسة في اقل من شهر من بدء التحرك،ترك منصبه لانه كان يعلم بأن سلطته تستند أصلاً على الدعم الغربي في مواجهة الشعب الرافض له، فخرج من المشهد فاتحا الطريق امام اعادة انتاج السلطة وتشكيلها باشراف اميركي..
وبسقوط مبارك دخلت مصر في مرحلة انتقالية بحثاً عن نظام حكم جديد، وكان واضحا ظهور التنافس بين التيارات العلمانية والدينية لتولي الحكم ولكن المفارقة تمثلت في مدى تغلغل اميركا في هذه التيارات حيث نجد :
– التيار العلماني اليميني وقد جمع المتناقضين و كانت معظم مكوناته ان لم نقل كلها ترتبط بعلاقة ما بأميركا بدءاً بالمجلس العسكري الذي تولى الزمام بعد مبارك و هو في الاصل نتاج البيئة التي تشكلت اثر قرار السادات بالانقلاب الاستراتيجي والالتحاق بأميركا، ومع المجلس نجد شخصيات تصنف في معظمها اميركية الهوى والتبعية خاصة وان اميركا اعتمدت عليهم في اكثر من مهمة دولية او عربية.
– التيار الديني و فيه كتلتان رئيسيتان السلفيون المرتبطون بـ (السعودية) وبالتالي تطمئن اميركا لمسارهم، والاخوان المسلمون الذين عقدت اميركا معهم الصفقات بمساعي كل من بريطانيا وتركيا وقطر. (لم نذكر الصوفين لاستنكافهم عن السعي الى السلطة)
– التيار المدني اليساري وهو متعدد المكونات والاتجاهات ويتمثل بالتيارات الوطنية والقومية وهي في اكثريتها ليست على علاقة مع اميركا لا بل ان بعضها في حالة جفاء وريبة وحذر من اميركا.
واستنادا الى هذه الخريطة اختارت اميركا – على عادتها – اللعب على حصانين فدعمت التيارين الاول والثاني معا ليتنافسا على ارضائها، فأيدت المجلس العسكري في قراراته المتجاوزة للدستور والصلاحية والتي جعل من نفسه عبرها مجلسا لكل السلطات (لكنه بقي يحاذر التماس والاشتباك مع السلطة القضائية) وفي الوقت ذاته اوحت للتيار الديني وعلى رأسه «الاخوان المسلمين» بأنها تريد انتقالا سريعا للسلطة وأن تتولى هذه الجماعة شأنها. ثم عملت على محاصرة التيار اليساري لتحول دون وصوله بأي شكل من الاشكال.
لقد تمكنت اميركا في نيف و سنة تقريبا من ترويض التيارين المعتمدين لديها وجعلتهما يقدمان ما تريد، حيث ان المجلس العسكري جاهر اثناء توليه للسلطة بتمسكه باتفاقية كامب ديفيد ملتزما عدم التراجع عن حرف فيها، كما ان الاخوان المسلمين الذين حاولوا في البدء ممارسة لعبة الالفاظ الملتبسة، عادوا واستجابوا لها باعلانهم الواضح والصريح انهم ملتزمون بالاتفاقية نصاً وروحاً ثم ذهبوا الى ابعد من ذلك لابداء الاستعداد لعقد صفقات تتناول قناة السويس واقامة القواعد العسكرية الاميركية في مصر والتدخل في مواضيع لم يجرؤ حتى حسني مبارك على الخوض فيها. وبهذا نشأت الطمأنينة المتبادلة بين اميركا وجماعة الاخوان، ما مكن اميركا من حزم امرها واعتماد هذه الجماعة جهة مطلقة الصلاحية لحكم مصر وانسحب الامر على موقف اميركا من الجماعة في بقية دول الربيع المزعوم. واطمأن الاخوان للثقة والدعم الاميركي وتدرجوا في المواقف حتى استولوا على السلطة بكاملها بعد ان تنكروا لقول مؤسس حركتهم بأنهم «دعاة وليسوا قضاة». وهنا مارسوا سياسة الاستئثار والاقصاء، وشكلوا في سرعة قياسية منظومة الحكم الاستبدادي الذي يحصر السلطات كلها في يدهم دون منازع، او شريك.
كان «الاخوان» ومن ورائهم اميركا يتوقعون او يحسبون بأن الشعب المصري، ومعه التيارات المدنية ستستسلم للامر الواقع وتنصاع لحكمهم كما انصاعت من قبله لحكم مبارك، لكن الحساب كما يبدو لم يكن دقيقا حيث تبين ان الوعي الجماهيري في مصر متقدم وانه يحول دون نجاحهم، فكان الرفض الشعبي للاداء الاخواني وكانت الانتفاضة المصرية الثانية، حركة تعامل معها الاخوان بالاهمال اولاً، ثم بالقمع المليشوي ثم بالتذاكي والالتفاف والمناورة التي لم تقنع الجماهير، وبات المشهد المصري الآن مفتوحا على اكثر من سيناريو منها :
أ. السيناريو الاول: استمرار جماعة الاخوان في الحكم و عدم اعترافهم بالفشل و السير قدما في المعركة ضد الشعب المصري الى آخر الطريق في المواجهة، و سيكون لهذا السلوك تداعيات منها:
1) دخول مصر في حالة من النزاع الداخلي الطويل المدى، ثم تطور الامر نحو اعادة طرح مصير وحدة مصر وتماسكها الوطني، خاصة إذا لم تتمكن الجماعة من حسم الموقف لصالحها (وهي عاجزة عن الحسم ضمن المعطيات القائمة).
2) قيام الغرب بإعادة تقدير الموقف مع انتظار النتائج التي ستسفر عنها مواجهات مصر لاختيار السياسة المناسبة حيال الازمة السورية. ما سيعني مزيداً من القتل والدمار وانعدام الاستقرار في المنطقة. وهنا قد يكون مبررا التفكير بتراجع الدعم الخارجي للحركات المسلحة العاملة في سورية خاصة ذات الانتماءات و الجذور التكفيرية و الاخوانية ما سيمكن الدولة في سورية من تحقيق انجازات ميدانية مؤثرة في مواجهتها.
ب. السيناريو الثاني: تمكن القوى المناهضة للاخوان من كسر شوكتهم و حملهم على الاعتراف بالفشل في ارساء دولتهم في مصر هنا سيكون للامر تداعيات على اكثر من صعيد منها:
1) ارتداد الفشل على الجماعة في اكثر من موطن، سواء في البلدان التي استطاعت الوصول إلى السلطة فيها كتونس وبدأنا نلاحظ استشراء انفلات الامن وتراجع الاستقرار السياسي فيها، او في البلدان التي يحاول الاخوان حكمها، حيث ان اداءهم في مصر شكل صدمة كبيرة للناس وباتت الجماعة موضع شك وريبة ولا يتقبلها او يصدقها عاقل. بعد افتضاح أمرها وطبيعتها المنافية لقواعد العدل و الحرية.
2) تراجع اميركا عن تبني حكم الاخوان والعودة الى التيار العلماني اليميني الذي تعول عليه لمسك البلاد وتأمين مصالحها فيها.
3) اعادة النظر في المواقف الغربية من الازمة السورية، وهي مواقف قامت على دعم جماعة الاخوان والسلفيين في حربهم على الدولة السورية لتدمير اقتصادها وجيشها ووحدتها الوطنية ومنع اقامة الدولة القوية التي تزعج اسرائيل. وهنا سيكون المجال متاحا اكثر امام الدولة لتقليص مدة معركتها الدفاعية واعادة الحال الى نصابه.
ج. السيناريو الثالث: قيام التيار العلماني اليميني وبدعم اميركي خفي بعملية انقاذية يبادر اليها الجيش المصري عبر اعادة احياء المجلس العسكري وهنا يمكن تصور احد الامور التالية:
1) وضع الجيش يده على السلطة وعزل جماعة الاخوان والعودة الى ما كان قد حصل بعد اسقاط حسني مبارك. وهو امر سيعيد تكرار التجارب السابقة مع احتمال تحول مصر الى حكم العسكريين بوسائل و مؤسسات مدنية.
2) ضبط الجيش للوضع وبالتفاهم مع الاخرين ودفع القوى السياسية لحوار مع ممارسة الضغوط على جميع الاطراف من اجل الوصول الى حلول توافقية وصيغ مقبولة للدستور وقانون الانتخاب.
3) تراجع المراهنة الغربية و الاميركية على الاخوان المسلمين في داخل مصر و خارجها خاصة لجهة ما يروج من قرب الاعلان عن الحكومة الاخوانية لقيادة المرحلة الانتقالية في سورية.
ورغم اننا نتمنى لمصر الخروج السريع الآمن من ازمتها، فإننا لا نرى حظوظا مرتفعة للسيناريو الثاني او الثالث وإننا نرجح حصول السيناريو الاول خاصة مع خروج المرشد العام للجماعة بموقفه بالامس والذي قطع الطريق على أي حل سلمي للازمة بقوله بأنهم «ماضون في المواجهة مهما كلف الأمر» موقف اتبعه مرسي بمناورته التي رفضت.