ثورة أون لاين- بقلم رئيس التحرير: علي قاسم
أسهب الرئيس الأميركي في الترويج لخلطة عجائبية أفضت لطبخة حصى، بعد طول معاناة في المناورة السياسية، فما قاله لايكفي لينهي الالتزام الأميركي بالاتفاق النووي، وليس هناك مايضمن في الوقت نفسه الإبقاء عليه،
حيث الباب الموارب على الاحتمالات المختلفة يترك الحبل على الجرار للتأويل والتفسير الذي بدا أقرب إلى التمنيات التي صبغت مواقف الأطراف المختلفة، وإن لم ينهِ الجدل و النقاش، فما كان يؤرق الإسرائيليين بقي على حاله.. وفي بعض جوانبه تضاعف، وما كان يقلق العالم لايزال هو ذاته ، وربما في كثير من تداعياته يفوق ما كان قائماً.
اللافت أن ترامب الذي سبقت موقفه هذا سلسلة طويلة من التخمينات التي بنت افتراضاتها على ما تسرب عمداً من بين سطور النيات الأميركية، لم يكن قادراً على كبح جماح شهوته في إظهار ولعه بالهيمنة والسطوة التي غابت في بعض الحقب عن مشهد السياسة الأميركية، وبدت أقرب إلى الواقعية في التعاطي مع الشأن العالمي، وبمسؤولية كانت إحدى ضحايا خطاب ترامب وسياسته وما تحمله من تداعيات وكوارث قادمة.
فالواضح أن السياق الذي أنتج كل تلك التداعيات يرسم إلى حد بعيد ما يجري تداوله داخل الأروقة الأميركية، وأحياناً من على منصات القرار الأميركي سواء تجسد ذلك عبر الكونغرس، أم جاء من الخارجية الأميركية، أم بلورته إلى حد بعيد مرافعات البيت الأبيض ذاته، والتي أدمنت صياغات صادمة على المستوى العالمي، ونقلت خطاب الحرب من الأروقة الداخلية والغرف السرية إلى المنابر الإعلامية والسياسية، وصولاً إلى اللقاءات التي يكون فيها الرئيس ترامب طرفاً، أو تلك التي يكون البيت الأبيض حاضناً لها على مستويات مختلفة.
الأخطر.. يبقى ما لم يقله ترامب، وتلك الكلمات التي فضل عدم البوح بها أو التعليق عليها، وتلك النيات التي أراد أن يضمّنها بين سطور الخطاب ، من دون أن يجاهر بها، والتي لا تحتاج في أغلب الأحيان إلى إفصاح، بقدر ما تستدعي سياقاً منفصلاً ينتج ذلك الكم المتورم من التفسيرات والتحليلات التي تذهب بالكثيرين إلى مواضع وأمكنة ليست مدرجة في الحسابات الأميركية، حيث ما قاله لا يضيف الكثير إلى المشهد التصعيدي ولا إلى المنحى الذي يسوق فيه، بل في بعض جوانبه كان دون مستوى التوقعات.
فالكثير مما قاله ينطوي على مفارقات حادة لا تثير الاستغراب والاستهجان فقط، بل تستدعي الشجب والتنديد وتقتضي العمل على إعادة قراءة بكثير من التروي والتمعن، وهي تحاول أن ترسم خريطة جديدة لمفاعيل الفهم الأميركي لدوره في العالم، والذي يتجاوز حدود الشرطي المتورم ليصل مرتبة الوصي على العالم، والمتحكم بمراكز حضوره ووجوده، وسياقات ما ينتجه من حروب وأزمات، وما يختلقه من مشكلات كان العالم في غنى عنها، ما يتطلب إعادة النظر في التقييم العاطفي الأولي الذي استدعى الرد على بعض الجوانب، لكنه تجاهل جوانب تبدو أكثر كارثية وأشد خطورة على السلم والأمن العالميين وعلى الاستقرار الدولي، حيث اتخذ الحديث عن الاتفاق النووي مجرد منصة ليعيد التصويب على العالم برمته.. بغربه وشرقه، والبدء بتقديم المقاربات التي تقتضيها التداعيات، وأخذها كعينة تصلح لقراءة المعادلات الأميركية التي يقدم ترامب بعض إحداثياتها ويخفي منها ما هو أكثر، ليبقى ما لم يقله هو الأكثر مدعاة للقلق وأوله: أن لا ثقة بأميركا..ولا بمؤسساتها.. ولا برؤسائها، ولا بكل الاتفاقيات التي توقع عليها.
بهذه الطريقة أوصل ترامب للعالم رسالة تشرح بإسهاب الوجه غير المقروء لأميركا وما تفكر به، وما تعمل عليه، رغم أنه لم يكن بحاجة إلى كل هذا الشرح، ولا إلى كل هذا الوقت، فقد كان حاضراً في كل الممارسات الأميركية.. ماضيها وحاضرها، وموقف ترامب يشي بأنها ستكون كذلك في مستقبلها على ضوء ما يتوافر من قرائن على عدوانية أميركية بدت مفرزاتها بالظهور تباعاً، بدءاً من التصعيد والتوتر في العالم والبحث عن جبهات إضافية، وليس انتهاء بالقرار الأرعن بالانسحاب من اليونيسكو، مروراً بالانسحاب الآخر من اتفاقية المناخ، وليس انتهاء بما يستتبعها.
a.ka667@yahoo.com