ثورة أون لاين – شهناز صبحي فاكوش:
كتلك السنديانة الشامخة التي تداعبها النسمات فتهز أصدافها الخضر لتحمل منها موسيقا تطير على جناحها، تلتقطها أذن حانية تعرف قيمتها. أو تجتاحها ريح عاصفة الشدة تسلبها بعض أوراقها فتذروها الرياح، كتلك السنديانة هِيَ الذاكرة الزاخرة بفكر السياسي أو الكاتب أو الأديب، يشتد العصف بها فيمسك بقلمه وورقه، وبعضهم يجلس أمام حاسوبه ليودعه تداعيات فكره وذاكرته.
والمفاجأة في قسرية الحدث أنه يطبق فمه ويكسر قلمه خشية المساس بمقامه لأنه يحسب للوهلة الأولى أن الكلمات تفر من أبجديته وأن إلهامه غائب، لكن سرعان ما تخامره الفكرة عندما يلتفت حوله ليرى ما يرى من مشاهد على الساحة، لا يمكن له تجاوزها. أيكتب إنشاءً أم عاطفة، فكراً أو سياسة لكن… لابد من الكتابة.. من أين يبدأ… يمسك بقلمه وهو الذي لا ينطق إلا بالحق الوفي للحدث والقلم معاً. تعوَّدَ نشر النور من خلال قلمه. لكن فجأة تتربص به الأحداث التي تطغى على صفحة الأيام، كذاك الزبد الذي يتلاطم على سطح البحر تحمله الأمواج. حقيقة هو غثاء لكنه في النهاية منظور لا يمكن نكرانه…
عندها فقط تتدفق الأفكار… هل هي ذكرى… أم ذاكرة… تحمل الأبجدية نقاطها وحروفها لتحط رحالها على الورق أو على شاشة الحاسب. غير مهم… المهم أنها ترتصف إلى جانب بعضها البعض لتوضح الفكرة. ولكن أية فكرة يمكنها أن تحتل السطور أهي التي يستحضرها فكره في تصوِّر الحدث أم تلك التي تصور المشاهد التي تخترق العيون من أرض الواقع غير عابئةٍ بدموعها أو دهشتها أو حتى استياءها…
النتيجة واحدة بالنسبة لأساس الحدث…
تسمع أصوات انفجارات خارج دائرة الزمن فتخترق الآذان والضلوع، ترتجف قلوب الأطفال وترتعد أوصال الجميع وتتعالى الصرخات (يا لطيف) في نداء استغاثة عفوي يستنجد به الداعي ربه عز وجل… أصبح المشهد شبه يومي.. (إلى متى)؟؟..
وتبدأ الأنباء بالظهور على شاشات التلفزة لتحديد المكان والأصوات التي هشمت كل ما يحيط بها… وبالذات انفعالات الأطفال…
لكن المفاجأة التي تصعق دائرة النبأ، أن محطات إعلامية خارج حدود الوطن تعلن عن المكان ونتائج الحدث في لحظاته تماماً، وفي بعض الوقت يسبق النبأ الحدث. وهنا المفاجأة الكبرى كيف… لم… لماذا… للقارئ بدقة تنجلي ملامح ما يدور في اللحظات العصيبة، فيمتلك اليقين الذي ما زال يرفضه البعض، من أن أيدٍ عابثة من خارج حدود الوطن ترسم ما يجري فيه من أحداث بمهارة الخبث الذي تجاوز حدود الناس العاديين، هؤلاء الذين تورطوا تحت زيف الشعار أو بإغراءٍ ما، في الزمن الضنك الذي يعصف بالعالم بأسره، ونحن جزء من جغرافيته وجزء من دورته الاقتصادية والمناخية في اجتياح ما يسمى بالربيع العربي. امتداد الربيع الغربي الذي بدأ اجتياحه للعالم في التسعينات… حتى أصبحت الأفكار بضاعة للتسويق في زمن استحال كل شيء فيه إلى بضاعة ينادى عليها في قارعة الطريق وعلى النواصي..
وأمام هول الحدث وكثرة الأرواح الطاهرة المودّعة لأجسادها، حيث الجثامين تنتظر دموع الأحبة ونحيب الزوجات والأخوات، وصبر الثكالى، وعزة وشموخ الأهل جميعاً. والوطن شريك في المشهد الحي.. يرتقي طور المشاعر ليحلق في غابة العنفوان وعلم الوطن يحتضن بدفئه جثامين الشهداء الأبرياء. كانوا في جلسة أسرية حميمية، صغارهم تلعب أو تؤدي واجباتها المدرسية، وكبارهم يستجرّون ما يحدث على الساحة الوطنية، والجميع يبحث عن مخرج. والكل يدرك أن أول خطوة نحو الانعتاق مما نحن فيه، هو أن تكف يد العبث عن حقن المسلحين وعتادهم في شرايين حياتنا، لأنها تلوثها وتأخذها إلى سعير نار تزداد اشتعالاً كلما كانت جرعات الحقن أكبر.. ثم يلف الغبار بعد الصوت المدوي المكان وتطير أحاديثهم وأفكارهم لتتوه وسط الأنقاض كما الأجساد الطاهرة التي تنتظر المغيثين علّ أنفاس أحدهم لم تنقطع بعد… وتبحث الأم التي تحمل (فردة حذاء ابنتها) عن صاحبته الجامعية التي خرجت لامتحانها ولكنها عبثاً تبحث كأنها تبحث عن سندريلا ولكن أين…؟؟؟!!
وتقف أرواح جديدة في أرتال الشُهداء السائرة لأخذ مكانها في جنة الخلد التي تضم اليوم الأبرياء، والذين يدافعون عن حرية هذا الوطن وسيادته وكرامة أهله وشعبه… وفي الطرف الآخر يرتفع السلاح بيد من يخرب أرضه وشعبه نيابة مع الأسف الشديد عن عدو تاريخي يهشم كل ما هو جميل في حياة البشر. وتسمياته كثيرة أعلاها الصهيونية وأدناها الإمبريالية، مروراً بالفتنة وسيلة.. والمرتزقة أداةً.. نحتاج هنا أمام هذه المشاهد التي أصبحت تتكرر عبر الليل والنهار، تُقَرِّبُ بينها عقارب الساعة أو تبعدها عن بعضها، إلى لحظة وعي وإدراك في كشف المستفيد الوحيد من كل ما يحدث، والإشارة بالبنان للخاسر المطلق. ويرفع حملة الأقلام الكثيرون بضاعتهم المغموسة بالسمسرة للبترودولار والسرقة لأرواح الشهداء والتحايل على الحقائق في تضييع الصورة الموثقة التي تنم عن الحقيقة والواقع. والوسيط ذاك الذي يمد يده عبر عمقه ليَنْقُدَ المجرمين ثمن إجرامهم ناسين أن أصحاب الأقلام قلة، والأوفياء لأقلامهم أقل فلا يبيعونه ولا يمسخونه بجعله لسان نفاق.
الهدف هو الوصول إلى تحطيم المعادل الأخلاقي والقيمي والاجتماعي النموذجي في العالم. فكل القيم قابلة عندهم للتداول في المزاد. ببساطة الهدف تحطيم سورية هذا التحطيم الذي وصل بهم إلى مستوى اللهاث وراء المال المتيسر لهم بسهولة، مقابل تزييف الواقع من خلال قلم زائف ينشر زيفاً مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً. ناسين أو متناسين أنهم شركاء في سفك الدم السوري والتمويل في مفارق النفاق والعبثية.
والمؤثر أفكار وشعارات مشروعة، والحقيقة هي ذريعة يتخفى خلفها الهدف الحقيقي في اتباع سياسة التذويب العنصري في انهاض الصهيونية، مقابل إقصاء القومية العربية. وببساطة أيضاً سورية وحدها اليوم تحمل لواء الدفاع عنها بإجماع شرفاء العرب.
وأقلام أبنائها البررة الذين لا يدنسونها بالدجل والخداع والتزوير والكذب. ويظلون متدثرين بالخلق الكريم لأنه وعاء الخير من الصادقين مع الوطن، والسبيل عندهم في إراقة الدم الطاهر البريء يحضنه أديم الأرض في توحد تزهر بعده شقائق النعمان لتعلن؛ هنا استشهد الأبرياء والمدافعون عن حياض الوطن…
فأصحاب القلم الصادق والكلمة الدائمة الوفاء، باقون على العهد والثبات على الولاء في ود وإخلاص. لأن صاحب القضية يملك الحق ولا يحيد عنه، فالحق هو الله عز وجل. فسبحان من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم… ولكن كل ذلك لا يمت لهم بصلة، فالهدف يختلف بينهم وبين هؤلاء الحريصون على نشر الحق والعلم والنور، ليطفؤا النار التي يُسعرونَ بنورِ قلوبهم وعقولهم عبر أقلامهم. فنجد عندهم شرايين دماء تكتب بلونها الأحمر الذي يصطبغ منه غسق الفجر وشفق شمس الغروب. ومن مداد رحيقه تتخضب أقلام الكتّاب. الأكثر نبلاً ووفاءً للطاهرين في ذكرهم دائماً. وإن كان البعض ما زال يروج أن بضاعة المثقف إلى بوار وأن كل شيء استحال إلى بضاعة. لكنهم يعلنون أنها تجارة آثمة إن كان هذا سبيلها. وهنا يسجل التاريخ لحظات التفاوت بين الموقع الحضاري الراسخ، والدور الريادي الذي يحفر الزمن بسعة أبعاده، وعظمته في التأثير والأثر لأن مدماكه صلب وبنيانه راسخ شامخ. وبين وجود هجين لكيانات نمت طفيلية تحت أسماء أسروية أو مشيخات مدماكها العبودية المزدوجة وسلاسل أغلالها النفط. وبين هذه وتلك تخرج بشيطانية حروف التاريخ والوجود الحضاري في حالة ثأرية غرائزية تبحث لذاتها عن أكبر مساحة زمنية يمكنها أن تتحرك فيها محشوة بالحقد، منتجةً بوسيلة العداء المطلوب منها لتدمير الوطن سورية. وأكبر الأدلة امتداد اليد الصهيونية لتنال من مركز بحثي علمي في تأكيد لكل من ينافي الواقع في نفي المؤامرة التي تطوق سورية لإجهاضها واستبعاد الصهيونية عن المشهد السوري، أصبح الشك الذي وارب الكثيرين يقيناً اليوم، وإلا فهو في غابة جاهلية خارج التاريخ.. الآن فقط يجد العاقل ضالته ويكتشف ما توارى خلف كل هذه الأحداث. إنها المؤامرة الكونية التي بدأت من عشرات بل مئات السنين وإن اختلفت فيها المفردات والتسميات لكن المنتج واحد.. الهيمنة على هذه الأمة ومصادرة حقوق شعبها، وجعلها مسرحاً للصراعات. ومع الأسف الشديد دائماً يجدون بين صفوفنا من يسخّر نفسه لتحقيق أهدافهم.. حتى بين حملة الأقلام التي يسعى أصحابها إلى الربح والثراء. وعلى الناصية المقابلة يتسامق المتدثرون بالخلق الكريم الطافح من وعاء الحق والخير وقول الصدق ونشر العلم، في مواجهة الضلالة والجهالة هؤلاء الذين ينتهون دائماً إلى الفشل والتصفية في احتراق (الجوكر).
أما سنديانة الوطن فشامخة لا تحنيها الريح وإن عبثت بأوراقها والأصل في الجذر الثابت… فأغصانها ما دامت تطرح الأقلام بين أيدي الأنقياء، وأوراقها تضم على صفحاتها آيات النصر المبين لتثبت في هندسة الزمان والمكان أن سورية أمةٌّ تُختزل في جغرافيا الوطن, لأنها في قلب كل شريف على رقعة تمتد من الماء إلى الماء…
والتحدي فيها يصنف في سفر المعجزات فخط دفاعها الأول جيشها حماة الديار الذين يدافعون عن سيادتها…
وشبابها المتفوق دراسياً… المبدع علمياً… هو خط دفاعها الثاني مع الفكر السياسي المتنوع المشارب الضالع في عشقها, ثلاثة تتجسد فيها الكبرياء والشموخ والمجد والمستقبل والعقل الراجح والحكمة.. مقومات تضع سورية المتجددة كما يشاؤها أبناؤها.
إنها ضمة الورد السوري الذي يجمع الزنبق بالقرنفل والياسمين, والبري في ضمة الأقحوان وشقائق النعمان والخزامى…
باقة العطر التي يحتضنها النخيل والزيتون والفستق الحلبي في هوية وطنية تتناقلها الألسن غربية أو عربية.
زهواً وطني سورية… نصراً وطني سورية.. سماحة شهداء سورية..