كأنه الخسوف هذا الذي يحدث – لعالية – لكنها لا تجرؤ على البوح.
قالت لها أمها: البوح نقطة ضعف الإنسان.. كوني كتومة دائماً، لا تلقي بما في أعماقك للريح.. اسمك -عالية- ظلي أعلى من الريح.. الريح تجرف – الأخف وزناً والأقل ارتفاعاً، البوح يسويك ريشة، قالت وهي تنظر بعينين زائغتين: (حاضر)
انتفضت الأم بوجهها وسألت (حاضر على شو؟) ناقشيني.. قولي رأيك.. هذه الـ -حاضر- يجب أن تتغير.
ابتسمت الصبية وقالت: (هكذا علمتمونا).
ردت الأم: هكذا علمتك التقاليد وهذه التقاليد يجب أن يثور عليها جيل الانترنت لا أن يظل مقدساً لها وخاضعاً.
ما زالت تتذكر هذه الوصايا وهي تستعيد طفولتها المتعبة.. تنظر حولها وهي تمشي مسرعة على ضفة بردى باتجاه المعهد العالي للمسرح، تهمس (تلك الطفلة ليست أنا).
تلك التلميذة التي يركض خلفها المطر بينما هي تسابق الريح ليست أنا.
وتلك الوصايا التي زرعتها أمي في رأسي لا تخصني.. هي تخص فتاة من عالم آخر.. ومن مجتمع غير المجتمع العربي المحكوم بموروث أزلي لا يحق لأحد أن يغيره.. لذلك عندما قامت الحرب وبدأت عمليات القنص والقتل والتفجير فكرت بكل هذا الموروث.. وبدأ الشك يخلخلها.. هل ما نقرؤه حقيقة أم هو من صنع خيال المؤرخين والحمقى؟.
وعندما ساح دم ابن الجيران أمام منزله انتقاماً من اسمه وتاريخه شعرت أن العالم يهتز.. وأن ما قالته أمها -الأجنبية- فيه الكثير من الحقيقة. يبدو أن الشعوب الغربية تفكر بطريقة مغايرة للعرب.
قالت لها أمها وهي تشاركها الرعب من الخروج إلى الشارع: (الإنسان خلق ليعيش) الغرب يضحك عليكم ويقررعنكم ويخسف بكم قيمكم فيصير القتل حياة.. وتصير المرأة سلعة.. والمادة غاية.. الغرب لا يمجد الروح.. ولا يمجد الإنسان.. الغرب يعبد المال ولو كان على حساب دمكم.
قالت الصبية: (أنت هكذا تقررين) والقرار يعني فرضاً.
قالت الأم المحجوزة داخل منزلها منذ أسبوع خوفاً من المسلحين: (هل لديك بديل لما أقول؟)
طفرت دمعة البنت وهي تسمع الأخبار وتحاول الاتصال بوالدتها.. إلا أن الهاتف كان مقفلاً. تذكرت أنها وحيدة دون أم.. كل شيء تخلخل وكأنما حدث خسوف في أفكارها. كانت أمها تنوي أن تعيش مئة سنة لكن القذيفة التي نزلت على باب توما قصّرت المسافة بين البداية والنهاية، عندئذ كل شيء تغير مع أن باب توما ما زال صامداً جميلاً.. زحمته تعود وواجهاته سهرانة كعادتها.. لكن عالية غير موجودة أو بالأحرى موجودة ولكنها مبعثرة.. تبحث عن ترميم انهداماتها عبر مراجعة للتاريخ والتراث الشعبي الذي لا أحد يعرف من وضعه وعليها أن تؤمن به.. تصدقه.. أمها الأجنبية قالت: لا تصدقي شيئاً إذا لم تلمسيه وتريه بأم عينيك، الخسوف الذي يحدث هنا قد يكون كسوفاً هناك.. وعلى العقل أن يبني يقينه وحده.
أخيراً عبرت عالية المعهد العالي، كان بردى يسير على مهل.. وكان العلم السوري يرفرف فوق مكتبة الأسد.. وقفت على باب المكتبة.. تساءلت (هل أدخل؟) ترددت للحظة.. لكنها دخلت فقد تقرر أن تقدم بحثها عن خسوف الرؤية، رددت هامسة (خسوف الرؤية؟).
ماذا يريد الأستاذ من خسوف الرؤية؟ سمعت دوي انفجار بعيد، ظلت واقفة لم ترتجف ولم تقع أرضاً، هل هذا الثبات أمام الموت هو خسوف أم هو الصورة؟ إذن المعاكسة؟ التي علينا أن نألفها وندافع عن حقيقتها، لماذا نتعب بالشك.. ولماذا الشك أصلاً؟ وهل يمكننا أن نرى بشكل أفضل إذا لبسنا النظارات الخاصة أم إذا بقينا دونها لننظر بالعين المجردة للأشياء؟
تبتسم الأم التي تملأ شاشة الهاتف وتقول: (تابعي) لا تتوقف الحياة عند خسوف أو كسوف، تابعي يا عالية.
كانت رائحة الكلمات تملأ البهو والممرات، تناولت كتاب ابن الأثير وراحت تقرأ وتهزّ رأسها دون أن يدري من يراها أهي موافقة أم مستنكرة ؟
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 14-11-2018
رقم العدد : 16836
السابق