تحاول اللقاءات الثنائية الروسية التركية على مستوى وزراء الخارجية والدفاع أن تعيد ضبط الإيقاع السياسي وفقاً لإحداثيات الميدان، وهي التي كان ينتظر منها أن تؤشـر إلى ما يمكن أن تكون عليه الخطوة التالية، حيث جزمت معطيات تلك اللقاءات أنها انتهت إلى غير ما بدأت به، بدليل أن المراجعة أو التقييم الذي أعلن عنه التركي طرح أكثر من إشارة استفهام، وترك الحبل على غاربه لكثير من الاستنتاجات والتحليلات التي تشي بأن التوافق لم يتأكد، وأن السياق الذي رسمته التكهنات لم يقد إلى حيث يراد لها أن تكون، والقمة التي كانت رهناً بنتائج المحادثات ليس هناك ما يوحي بأن دخانها الأبيض سيرى النور حتى اللحظة على الأقل.
هذا يدفع إلى الجزم بأن أجندات التحرك الميداني باتت هي المفصل، وعلى أساسها يمكن القراءة سياسياً، وأنها ستكون القاطرة لأي حراك سياسي قادم، وقد تكون المعيار الفعلي على نحو غير مسبوق، بحيث إن ما هو مطروح على الطاولة الميدانية التي تحركها حتى اللحظة الاعتبارات القائمة في المعادلات الإقليمية والدولية بات الفارق الحقيقي والقيمة المضافة سياسياً للعمل الميداني، فيما تتحرك الاسقاطات السياسية غرباً وشرقاً لتكون المعيار والمنظم لما هو قادم.
ما يتضح اليوم أن الذاكرة السياسية للكثيرين تصاب بالعطب المؤقت أو «المبرمج»، بمعنى تتذكر ما تراه مناسباً أو ما يتلاقى مع تمنياتها وتنسى ما لا يروق لها أو يخالف رغباتها، وهو ما يمكن لحظه من خلال ردود الفعل المتباينة على التطورات الميدانية بأوجهها المختلفة التي أعقبت القرار الأميركي بالانسحاب، حيث الغمز من قناة المفاجأة غير المحسوبة أو التشكيك بالخطوة وأبعادها يثير تلك الأسئلة المتعلقة بالأجندات التي تعيد مطابقة إيقاعها مجدداً على التطورات الميدانية بعد أن خرجت لدى البعض من روزنامة الاعتبارات والمعادلات التي ترسمها.
فسورية منذ البداية كانت تقول: إن إعادة الأمن والاستقرار إلى كل المدن والبلدات واجتثاث الإرهاب من كل بقعة هو الأمر الطبيعي الذي ستؤول إليه مختلف السيناريوهات، وهي الحصيلة التي ستقرّ بها مختلف المواقف مهما كانت الموازين الإقليمية والدولية، على ضوء الإقرار المنطقي بأن الرسالة السورية كانت على درجة متقنة من الوضوح والبلاغة بحكم ما قدمته التجربة على الأرض في المناطق التي سبقتها بالعودة.
وهذا في القراءة السياسية كان يكفي لليقين بأن الأمور ستكون وفق هذا المعيار مع الاعتراف بأن التوقيت يختلف، وربما يأخذ في بعض حساباته ما تقتضيه الظروف أحياناً، لكن هذا اليقين لم يتغير ولم يتبدل مع مرور الوقت، ويفتح الشهية على السؤال المنطقي وهو ماذا بعد؟، وقد يكون هو الأكثر ضرورة بعد أن بات الحديث عن الكثير مما تم طرحه خلفنا سابقاًً، رغم محاولات التسويف والترويج لكثير من الأقاويل والاستنتاجات التي تعكس أمنيات وتمنيات أكثر مما تحاكي الواقع.
ما يمكن القياس عليه هو المعيار ذاته الذي سرى على ما سبق، وأن الحصيلة النهائية أو الناتج الفعلي سيوصل إلى نقطة الارتكاز التي ترسم الإيقاع السياسي والميداني للمعركةضد الإرهاب ومفاعيله القادمة بكل أبعادها، ورسم إحداثيات التطورات الموازية على أساس التقاطعات القائمة والمستجدة، ومدى التطابق بين الأجندات قريبها وبعيدها من منظور مساحة المساهمة في الحراك الذي تنتجه التطورات الميدانية الأخيرة وما سبقها من رسم لقواعد الاشتباك، التي ثبت بالدليل القاطع أن الكثير منها بَطل ولم يعد صالحاً، والقليل منها الذي بقي قد تكون بعض جزئياته لا تزال تحتفظ بصلاحيتها، لكن بمنظور ما بعدها وشروطه وحتى إيقاعه المتحرك.
بقلم رئيس التحرير علي قاسم
a.ka667@yahoo.com
التاريخ: الأحد 30-12-2018
رقم العدد : 16873
التالي