لا يمكن فهم القرار الفرنسي بالبقاء في سورية إلا من زاوية المحاولات المتواصلة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتعويم الدور الدور الفرنسي ليس في المنطقة فحسب بل في العالم بشكل عام، وهذا يندرج بطبيعة الحال فيس سياق المحاولات المحمومة لماكرون –
وإن كانت تلك المحاولات تجري بشكل غير معلن وفي الخفاء وخلف الكواليس – لإخراج السياسة الفرنسية الخارجية من القوقعة الأميركية، خصوصاً بعد أن كانت الإستراتيجية الفرنسية خلال الأعوام الماضية جزءاً لا يتجزأ من الإستراتيجية الأميركية، حيث جسدت فرنسا الدور الذي أوكلته إليها الولايات المتحدة بكل جدارة ومهنية الى درجة فاقت حتى التوقعات الأميركية.
فرنسا تحاول اليوم العودة إلى دورها التقليديّ في المنطقة وذلك من خلال إثبات أنها لاتزال موجودة على الساحة الدولية كطرف فاعل ومؤثر على الأرض وليس كطرف ثانوي وتابع وفائض، خصوصاً بعد قرار الانسحاب الأميركي من سورية، وهذا لا يهدف الى إعادة الألق الى الدور الفرنسي فحسب، بل الى تحصيل أكبر قد من المكاسب على الأرض وهذا لا يكون بالمنظور الفرنسي وفي هذه اللحظة الاستثنائية إلا بملء الفراغ الذي سوف يتركه الأميركي في سورية.
الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس بوتين ونظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون يعكس التوجه الفرنسي نحو الدفع بالدور الفرنسي الى الواجهة والواضح من البيان الصادر عن مضمون الاتصال ذلك الانزياح الواضح للسياسة الفرنسية نحو التعاون مع الروسي في الكثير من الملفات والقضايا الشائكة والعالقة، بعد أن تأكد أن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترامب الذي جمع بين فنون السياسية والتجارة باتت موقع المتخبط والمترنح نتيجة إخفاقاتها المتلاحقة في سورية، وهو الموقع الذي يجعل من صاحبه مهيأً للاستغناء عن كل حلفائه وشركائه في أي لحظة على قاعدة علم البحار التي تسمح برمي كل ما هو فائض في البحر خشية الغرق.
غير أن الإشكالية الكبرى التي تواجه العودة الفرنسية الى سورية ترتبط بالولايات المتّحدة نفسها فالرئيس الأميركي دونالد ترامب صحيح أنه أعلن أنّه يريد سحب قوّاته بأسرع وقت ممكن من هناك، لكنه لم يطلب من باريس ملء هذا الفراغ وهذا ما نشرته مجلّة (ذي اتلانتيك) الأميركيّة التي قالت إنه لا الرئيس الأميركي الأسبق أوباما ولا الرئيس الأميركي دونالد ترامب عرضا على الفرنسيّين أن يساهموا أكثر في سورية، وخصوصاً أنّ باريس كانت دوماً مستعدّة لوضع مزيد من القوّات على الأرض.
يذكر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بحث في اتصال هاتفي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تسوية الأزمة في سورية وذكر الكرملين، في بيان صدر عنه بهذا الصدد أمس، أن الرئيسين «تطرقا بصورة مفصلة إلى القضايا الخاصة بالتسوية في سورية، وبالدرجة الأولى في سياق الاتفاقات بشأن تشكيل اللجنة الدستورية والتي تم التوصل إليها خلال القمة بين زعماء روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا في اسطنبول تشرين الاول 2018.
وأضاف الكرملين أن أن الجانبين واصلا تبادل الآراء حول الأزمة في سورية والقضايا العالقة هذا وقد أكدت الدول الـ4 التي شاركت في قمة اسطنبول حول سورية الدعم للحل السياسي وشددت تلك الدول على تعهداتها القوية حيال سيادة واستقلال ووحدة أراضي سورية وأهمية تحقيق وقف إطلاق نار شامل فيها، وفي هذا السياق فقد أعلنت باريس أن ماكرون شدد خلال المكالمة على ضرورة تجنب أي زعزعة لاحقة للاستقرار في سورية قد يربح منها الإرهابيون، كما أكد الرئيس الفرنسي أن بلاده تعطي الأولوية في سورية لجهود مكافحة الإرهاب، وأبلغ بوتين أن التحالف الدولي ضد «داعش» بقيادة الولايات المتحدة والذي يشمل فرنسا سيواصل محاربة التنظيم الإرهابي.
صحيفة الـ(لوموند) الفرنسية وفي مقال لها الأسبوع الماضي تحدثت عن مستقبل الوجود الفرنسي في شمال شرق سورية بعد قرار واشنطن سحب جنودها، حيث أوضحت الصحيفة ان القوات الفرنسية ستظل في الوقت الراهن متواجدة بالمنطقة حتى مع إعلان الانسحاب الأمريكي، واعتبرت الصحيفة ان التواجد الفرنسي هو بات رمزيا في المنطقة، ففرنسا أصبحت معزولة في هذا الملف بالرغم من مطالبة بعض المجموعات الارهابية الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالحصول على الحماية العسكرية كما نقلت الـ(لوموند) عن مصدر مقرب من الملف ان فرنسا من دون الولايات المتحدة لا يمكنها البقاء في المنطقة فهي تعتمد بشكل أساسي على شركائها في التحالف بخصوص الوسائل اللازمة التي تحتاجها قواتها العسكرية العاملة في المنطقة.
السؤال الذي يشرع الأبواب خلفه على كل الاحتمالات والتوقعات والتساؤلات.. هل بإمكان فرنسا ماكرون أخذ الدور الذي سوف تتركه خلفها الولايات المتحدة في حال طابقت أفعالها أقوالها وانسحبت من الجغرافيا السورية؟..بل هل يمكن لواشنطن أن تسمح لأحد بعدها حتى لو كان من حلفائها وشركائها في الإرهاب والتدمير بملء هذا الفراغ إن لم تكن هي سمحت بذلك؟.. وما المقابل لذلك وما الأثمان التي سوف تدفعها فرنسا مقابل هذا الحضور المباشر على الأرض. السؤال الأكثر أهمية من كل ما سبق، هل من المعقول أن تغامر باريس بلعب هذا الدور الذي فشلت فيه الولايات المتحدة؟ أم إن الأمر مجرد محاولة ميتة سلفاً للعودة الى الساحة الدولية وبغطاء دولي تحت عنوان التعاون في حل المشكلات والقضايا العالقة ومن نافذة اقتناص الفرص والتصيد في الهوامش والفراغات التي خلقتها الهزائم المتدحرجة لأميركا وأدواتها في الجغرافيا السورية.
فؤاد الوادي
التاريخ: الجمعة 4-1-2019
الرقم: 16876