تتلازم في الأداء الوطني السوري ثلاثة حدود أساسية هي الحد الوطني الحاضن والحد الأخلاقي والحد السياسي، وهذه حالة غير متداولة في المواقف المعروفة والمؤثرة عند أنظمة كثيرة ولا سيما الغرب الاستعماري بشقيه الأوروبي والأميركي، وحالة التلازم هذه في مستوى البحث والتحليل تنتج مغزيين متناقضين فهي من جهة تؤكد قواعد الثبات ومعالم التدرج عبر التضحيات نحو النصر وانجاز الأهداف الوطنية الكبرى، ولكنها من جهة ثانية تتحول إلى عامل تقويم للواقع وكشف المناطق السوداء فيه وفضح نقاط الضعف سواء بالأشخاص عبر المسؤوليات أو في أنماط السلوك والتعامل التي ما برحت تتسلل إلى عمق الموقف الوطني تقتنص منه ما يمكن أن يتحول إلى عبء على الحياة وإلى مطارح تعقيد وإعاقة لخط السير السليم في الحالة القائمة ما بين الوطن والقيم والسياسة وهنا فإن المسألة لا تبدو ذات طبيعة نظرية بحتة كما أنها في التطبيق والمعايرة ليست متاحة أو سهلة لاسيما حينما تختلط الحدود ما بين الادعاء الفاقع والانقلاب عليه.
عندها ندرك خطر هذه المسافة ما بين القول والفعل عند البعض ونستمد من النص القرآني هذا المعنى في الخطاب الموجه للمؤمنين وليس للمسلمين فحسب، والمؤمن درجة عميقة متقدمة عن المسلم وهنا نطرح النص القرآني حينما يقول {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، والاعتقاد واضح وسائد هنا وهو يتكثف في مسار واحد ولحظة واحدة في ذهن المواطن السوري على وجه الخصوص، إذ تتبدى هذه الحالة من الشعور بالانتماء العالي والسمو والإصرار بناء على الأداء الوطني السوري سواء في المعارك العسكرية أو في تطبيقات السياسة أو في هذا الانسجام المطلق مع أحكام القيم والأخلاق، نعم إن كل سوري يرفع رأسه إلى السماء وهو يعيش الحالة الوطنية ويقبس منها القمة والقيمة ثم يذهب باتجاه اليقين الأكيد بالنصر النهائي على المشروع المعادي بكامله.
وهذه الحالة بالمناسبة هي مسار تاريخي وسياق متصل قد يفتر بعض المفاصل الزمنية وتحت وطأة التباسات الاختيارات ولكنه في نهاية الأمر ينبعث من جديد وتتكامل معطياته وتطبيقاته ويبقى السوري سورياً يكتسب هذه العلامة المسجلة ويندفع باستمرار نحو مسافات أعمق في ارتياد المعارك واتخاذ المواقف، سورية هكذا هي على مر التاريخ منذ آلاف السنين تتألم ولكنها لا تهون ولا تضعف ولا تبدل تبديلاً ومعلوم أن مثل هذا النسق من الأداء والعطاء سرعان ما يتغلغل في أعماق أبناء الوطن، الأمر الذي ينتج حالة الصبر على المكاره والمعارك الصعبة وحالة الاندفاع مع كل مرحلة نمو نحو الأسمى والأعمق والأكثر صفاءً في إعادة بناء الواقع مهما كانت درجة التخريب والهدم فيه، هذه هي عناوين الوطن السوري بسياساته وأداء أبنائه ومنهج بناء مستوى الرد والردع لكل عوامل العدوان والغزو والقهر والتزييف، وهنا سوف تحدث الصدمة وأبناء الوطن يعيشون كارثة السلبية والفساد المنتشرة كبثور طارئة على الجسم الوطني والكفيلة كما نتابع في آفاق الواقع بنشر ثقافة الخطر فيها أن يضيع فيها الصالح بجرائر الطالح ونحن نعلم بما لدى الشعب السوري من حساسية وخبرة ومن موروث وطني تاريخي أنه لا خوف ولا حزن في زلزلة أو تخريب الأداء الوطني.
فذلك ثابت سوري يعادل الروح والقيم الكبرى وعوامل وجود المصير الحي لكن الأمر يتصل هنا بمادتين محيرتين من حيث الانطباع ولكنهما خاضعتان للتقويم والبحث والوصول إلى خلاصات يتم البرهنة عليها، أما في المادة الأولى فالسؤال الأهم هو كيف يتقبل أو حتى يجرؤ الفاسدون والمفسدون وتجار الحروب والأزمات ومدعو المواقف التهريجية، كيف يجرؤ هؤلاء على أن يقترفوا الجريمة في وضح النهار وفي رد مؤلم على الشهادة والشهداء وفي تمهيد متدرج لكي يبقى العدو عدواً بل لكي تتهيأ الفرصة ليعود هذا العدو الخطير والكبير إلى ممارسة هذه الهمجية في ربوع وطننا الموحد.
كيف يجرؤ هؤلاء ولكننا نعلم بأنهم سادرون في غيهم بل هم مستمتعون في أفعالهم المنكرة إلى درجة السادية وبالمحصلة يتراكمون ويأتلفون مع أفعالهم الناقصة الى درجة الإدمان عليها، وإلى الحد الذي صاروا لا يخشون عاقبة ولا يدققون في نتائج وخيمة ولا يحسبون أي حساب للتقويم والانفضاح والوصول في نهاية الأمر بعد أن تجاوز المفسدون حدود الله وحدود الوطن، إنها مسألة تقع في إطار الاستفهام عنها انكارياً، ولا حياة لمن تنادي إذا ما بقيت الأمور في إطار العواطف الجياشة والمناداة المجروحة التي سرعان ما تتحول إلى صدى أو صوت جغرافي، وأما المادة الثانية فهي في محاولة التقاط نتائج هذا الخلل على الذات الوطنية أولاً وعلى مستويات ومجريات الصراع ضد الأعداء، ألا نرى أن الحالة الجاذبة والمغرية للمشروع المعادي بكل أصنافه ومصنفاته هي نقاط الفساد في الداخل ومواقع الترهل في الجسد الوطني وتلك الثغرات التي ما تزال تستدرج الخارج الأسود إلى الداخل الأبيض، لعله من الممكن بل من الضروري في هذه اللحظة أن نقول بأن سورية المثل والمثال لا يليق بها أن يبقى في جنباتها فاسد ومرتكب وأن نجري على هؤلاء حساباً قاسياً بمعايير الوطن والقيم والعناوين السامية الكبرى.
د. احمد الحاج علي
التاريخ: الاثنين 7-1-2019
الرقم: 16878