الملحق الثقافي-إعداد: رشا سلوم:
ما من أحد يمكنه أن يقرأ تاريخ الرواية العربية من دون المرور بقامات كبيرة شكلت محطات مهمة في تاريخها، وهي في مكتبة كل بيت، من هؤلاء، نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، الذي تحل مئويته هذه الأيام، ويحتفي به الكتاب المصريون، والصحافة الثقافية العربية. إحسان عبد القدوس الروائي الذي دخل كل بيت، وهو الذي ملأ الساحة الأدبية والثقافية، وتحولت أعماله إلى أفلام سينمائية مهمة وجميلة.
محطات في حياته
تقول الموسوعة الحرة عنه: إحسان عبد القدوس (1 كانون الثاني 1919 – 12 كانون الثاني 1990)، هو كاتب وروائي مصري. يعتبر من أوائل الروائيين العرب الذين تناولوا في قصصهم الحب البعيد عن العذرية، وتحولت أغلب قصصه إلى أفلام سينمائية. ويمثل أدب إحسان عبد القدوس نقلة نوعية متميزة في الرواية العربية، إذ نجح في الخروج من المحلية إلى حيز العالمية وترجمت معظم رواياته إلى لغات أجنبية متعددة. وهو ابن السيدة روز اليوسف اللبنانية المولد وتركية الأصل وهي ُمؤَسِسَة مجلة روز اليوسف ومجلة صباح الخير. أما والده فهو محمد عبد القدوس كان ممثلاً ومؤلفاً مصرياً.
نشأ إحسان عبد القدوس في بيت جده لوالده الشيخ رضوان، والذي تعود جذوره إلى قرية السيدة ميمونة زفتا الغربية. وكان من خريجي الجامع الأزهر ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية. وهو بحكم ثقافته وتعليمه متدين جداً وكان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، بحيث كان يُحرّم على جميع النساء في عائلته الخروج إلى الشرفة من دون حجاب، وفي الوقت نفسه كانت والدته الفنانة والصحفية السيدة روز، سيدة متحررة تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن.
وكان ينتقل وهو طفل من ندوة جده حيث يلتقي بزملائه من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية التي ارتضاها له جده. وقبل أن يهضمها يجد نفسه في أحضان ندوة أخرى على النقيض تماماً لما كان عليه.. إنها ندوة روز اليوسف.
ويتحدث إحسان عن تأثير هذين الجانبين المتناقضين عليه فيقول: «كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه».
والدة إحسان «روز اليوسف» اسمها الحقيقي فاطمة اليوسف وهي لبنانية الأصل، نشأت يتيمة إذ فقدت والديها منذ بداية حياتها واحتضنتها أسرة صديقة لوالدها والتي قررت الهجرة إلى أمريكا. وعند رسو الباخرة بالإسكندرية، طلب إسكندر فرح صاحب فرقة مسرحية من الأسرة المهاجرة التنازل عن البنت اليتيمة فاطمة ليتولاها ويربيها فوافقت الأسرة. وبدأت حياتها في الفن.
وتعرفت فاطمة اليوسف على المهندس محمد عبد القدوس، المهندس بالطرق والكباري، في حفل أقامه النادي الأهلي وكان عبد القدوس عضواً بالنادي ومن هواة الفن فصعد على المسرح وقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة، فأعجبت به فاطمة وتزوجته، فثار والده وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الابن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً مسرحياً.
درس إحسان في مدرسة خليل آغا بالقاهرة 1927-1931م، ثم في مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة 1932م-1937م، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة.
وتخرج من كلية الحقوق عام 1942م، وفشل في أن يكون محامياً. ويتحدث عن فشله هذا فيقول: «كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت، وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعاً».
تولى إحسان رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف، وكان عمره وقتها 26 عاماً، وهي المجلة التي أسستها والدته. وقد استلم رئاسة تحريرها بعدما نضج في حياته، ولكن لم يمكث طويلاً في مجلة روز اليوسف ليقدم استقالته بعد ذلك، ويترك رئاسة المجلة لأحمد بهاء الدين، ويتولى بعدها رئاسة تحرير جريدة أخبار اليوم من عام 1966 إلى عام 1968، ومن ثم عين في منصب رئيس مجلس الإدارة إلى جانب رئيس التحرير في الفترة بين 1971 إلى 1974. وكانت لإحسان مقالات سياسية تعرض للسجن والاعتقالات بسببها. ومن أهم القضايا التي طرحها قضية الأسلحة الفاسدة التي نبهت الرأي العام إلى خطورة الوضع. وقد تعرض إحسان لمحاولات اغتيال عدة مرات، كما سجن بعد الثورة مرتين في السجن الحربي وأصدرت مراكز القوى قراراً بإعدامه.
إنتاجه الأدبي
كتب إحسان عبد القدوس أكثر من ستمائة رواية وقصة، قدمت السينما المصرية عدداً كبيراً منها حيث تحولت 49 رواية إلى أفلام، و5 روايات إلى نصوص مسرحية، و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية، و10 روايات أخرى تحولت إلى مسلسلات تلفزيونية، إضافة إلى أن 65 من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والأوكرانية والصينية، وقد كانت معظم رواياته تصور فساد المجتمع المصري وانغماسه في الرذيلة وحب الجنس والشهوات والبعد عن الأخلاق، ومن هذه الروايات (النظارة السوداء) و(بائع الحب) و(صانع الحب) والتي أنتجت قبيل ثورة 23 يوليو 1952. ويتحدث إحسان عن نفسه ككاتب عن الجنس فيقول: «لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس فهناك المازني في قصة «ثلاثة رجال وامرأة» وتوفيق الحكيم في قصة «الرباط المقدس» وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسؤوليتي ككاتب!! ونجيب محفوظ أيضاً يعالج الجنس بصراحة، ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث الذي لا يقرأ أو لا يكتب أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور.. أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندي ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية –دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى». وكذلك في روايته «شي في صدري» والتي صاحبتها ضجة كبيرة في العام 1958، حيث رسم فيها صورة الصراع بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشعبي وكذلك المعركة الدائرة بين الجشع الفردي والإحساس بالمجتمع ككل.
كما أن الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر قد اعترض على روايته البنات والصيف، والتي وصف فيها حالات الجنس بين الرجال والنساء في فترة إجازات الصيف، ولكنه لم يهتم لذلك بل وأرسل رسالة إلى جمال عبد الناصر يبين له فيها أن قصصه هذه من وحي الواقع بل أن الواقع أقبح من ذلك، وهو يكتب هذه القصص أملاً في إيجاد حلول لها.
كان لإحسان عبد القدوس دور بارز في صناعة السينما ليس فقط عن طريق الأفلام التي أعدت عن قصصه ورواياته ولكن بالتي شارك في كتابة السيناريو والحوار للكثير منها، فقد كان على النقيض من الأديب نجيب محفوظ، فهو لم يكن يؤمن بأن صاحب العمل الأدبي الأصلي لا علاقة له بالفيلم أو المسرحية التي تعد من عمله الأدبي. فقد شارك في صياغه وكتابة حوار العديد من الأفلام مثل فيلم «لا تطفئ الشمس» للمخرج صلاح أبو سيف الذي كتب نص الحوار فيه، كما كتب الحوار أيضاً لفيلم «إمبراطورية ميم» الذي كانت قصته مكتوبة على أربعة أوراق فقط والذى أخرجه حسين كمال، كما شارك كذلك الكاتبين سعد الدين وهبة ويوسف فرنسيس في كتابة سيناريو فيلم «أبي فوق الشجرة».
بيته مازال يحتفظ بإحسان وتاريخه، للحظات لا تشعر أنك في بيت، إنما في متحف من العيار الثقيل، لوحات لكبار الفنانين، تماثيل وقطع فنية من خارج مصر، فيه تمثال يعود لأكثر من 105 أعوام، وهو هدية تلقاها والده من جورج أبيض، أثناء زيارته لباريس 1912، أما قطعة القماش المرسوم فيها منمنمات، وهي التي تقابلك بمجرد أن تخطو خطوات قليلة داخل البيت، وتحتل أعلى الكنبة الرئيسية المعدة لاستقبال الضيوف، فقد اقتناها إحسان أثناء رحلته لكوريا 1987، قبل أن يتعرض لمحنة المرض، في حين جلس على هذه الكنبة كبار المثقفين والفنانين، ويتذكر ابنه محمد الحفلات التي كان يقيمها والده، ويحضرها نجوم المجتمع في كل المجالات: فاتن حمامة، فريد الأطرش، أم كلثوم، صلاح جاهين، جورج البهجوري وغيرهم، ويصمت محمد للحظات كأنه يتذكر حدثاً مهماً، فيقول: هذا المكان الممتد حتى البلكونة، كان دائماً ما يمتلئ بمحبي إحسان، خاصة في 31 ديسمبر من كل عام، حيث يقيم احتفالية عيد ميلاده، الذي يقدمه يوماً، فهو رسمياً الأول من يناير، لكنه اختار 31 ديسمبر لكي يحضر إليه كل الشخصيات التي تحتفل برأس السنة، ويكون هذا البيت هو المركز الذي يترددون عليه، إما وهم ذاهبون لاحتفاليتهم، أو قادمون منها، ويستمر إحسان وعائلته في استقبالهم طوال الليل.
التاريخ: الثلاثاء 15-1-2019
رقم العدد : 16885