كتبَ غي دي موباسَّان (1850-1893) ذات يوم قصّةً أسماهما (مُغامرة باريسيّة)، وهي وإن كانت تتحدّثُ عن حِدّةِ الفضول عند المرأة؛ فضول أن تعرف، أن (تكتشف.. أن تلمس لمسَ اليد ما حَلُمَتْ بهِ)، فإنّها أضاءت جانباً – كما أرى – من حالةِ التناقض في صورة الكاتب عندما تقتربُ منهُ المرأة إلى مسافةٍ قصيرةٍ جداً، عندها تتبدّى صورة أخرى مختلفة إلى حدٍ بعيد عَمّا رسمتْهُ كتاباتُ هذا الكاتب شاعراً كان أم روائياً أم قاصاً؛ وهذا معنىً قبضَ عليهِ نزار قباني منذ زمنٍ بعيد حين خاطبَ إحدى قارئاتِهِ التي أرادت أن تعرفه عن قرب بعد أن خَلب لبَّها نزار الشاعر:
من أينَ؟ أحلى القارئاتِ أتيتني أنا لستُ أكثَرَ من سراجٍ خامِد
أنتِ الربيعُ بدفئِهِ وشموسِهِ ماذا سأصنَعُ بالربيعِ العائِدِ
لا تبحثي عنّي خلالَ كتابتي شتانَ ما بيني وبينَ قصائدي
والحالةُ تحدثُ عند غير الشعراء والكتّاب، لكن مشكلة هؤلاء أن من يقرأهم ويُسحر بهم يسعى إلى التعرّف إليهم عن قرب، فيأتي الأمر مخيّباً للآمال غالباً.
تتحدّثُ قِصّةُ موباسان عن مُغامرةٍ تقوم بها امرأة فرنسيّة ريفيّة، كانت تعيشُ حياة ًهادئة، تدورُ في البيت ما بينَ زوجٍ كثيرِ الانشغال وولدينِ صغيرين. كان قلب تلك المرأة يضطرمُ بفضولٍ خفي وبتوقٍ إلى المجهول، فكانت تعشقُ باريس من بعيد وتقرأ بشغفٍ المجلّات التي تتحدّث عن سيدات المجتمع ومشاهيره، وتقرأُ كُتباً، وفي لياليها الطوال كانت تحلم وتحلم، بينما زوجُها ينامُ بقربها على ظهره يشخُرُ شخيرهُ المنتظم رابطاً منديلاً حول رأسِهِ، كانت تحلم بالأسماء الكبيرة التي تتصدّر صفحات الجرائد، وتفكّر في حياة هؤلاء البشر، وفي مغامراتهم وملذّاتهم المعقّدة… وتشعر بأنها تقدّمت في السنِ ولم تعرف من مباهج الحياة ومسرّاتها شيئاً..
وهكذا وبعد تحضيرات طويلة واختلاقِ حجُجٍ تذهبُ إلى باريس لزيارة أقاربها، فتجوبُ الشوارع، وتنقّبُ بعينيها في المقاهي، وتقرأ الرسائل الصغيرة في (الفيغارو)، دون أن تهتدي إلى أي أثرٍ يمكن أن يقودها إلى حياة الفنانين والأدباء، لا شيء يكشف لها معابد المُغامرات، لكنها في أحد أيام رحلتها توقّفت أمام محلٍ كبيرٍ لبيع التحف في شارع (دانتان)، وسمعت صوتَ صاحب المحل وهو يُلحُّ في عَرضِ تمثالٍ من الخزف الخشن على زَبونٍ ذي اسمٍ شهيرٍ جَعَلَ كل من في المحل والمرأة الريفيّة يلتفتونَ إليه، لقد كان كاتباً مشهوراً جداً، بديناً، أصلعَ، أسمر الجبهة سَمّاه موباسان اسماً موحياً (جان فاران)، وأقنعنا أنّه مُعاصر لإيميل زولا، والكسندر دوماس الابن.
وباختصار تتدخَّل المرأة الريفيّة في الحوار، وتشتري التمثال من مالها الخاص وتقدّمه هديّةً للكاتب الكبير، ثُمّ تجري أحداث اليوم كٌلّه وهي متمسّكة بالكاتب ومُرافقةً لَهُ في محطاتِ نهارهِ ومسائِهِ كلّها، كما اعتادَ عليها، وصولاً أخيراً إلى غرفةِ نومِهِ، فشعرتِ المرأةُ بعبث هذهِ التجربة وفشلها وهي تنظرُ بأسف إلى هذا الرجل الصغير النائم على ظهره قربها؛ كان يبدو مدوّراً وقد انتفخت بطنه ورفعت الغطاء كأنها بالون غاز، كان يلهث كأنّه ينفخُ في بوق ويشخر شخيراً مُنتظماً، وتنتابُهُ بعض حالاتِ الاختناق المضحكةً؛ وحين تبدأ علامات الفجرِ بالظهور تنهضُ المرأة وتفتحُ الباب وتهمُّ بالانصراف، فإذا ما صحا الكاتبُ وسألها لماذا فعلتِ ذلك البارحة؟ أجابته كعذراءٍ تتضرّجُ بالحُمرة: (كنتُ أريدُ معرفة الرذيلة.. حسناً إنها ليست بالشيء اللذيذ)، وما إن وصلت المرأة إلى غرفتها عند أقاربها حتى بدأت تبكي.
إضاءات
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 20-1-2019
رقم العدد : 16889
السابق
التالي