ذات يوم طرح المفكر والفيلسوف العربي أحمد زكي فكرة على غاية من الأهمية, حين تابع المشهد الثقافي والفكري العربي, وجد أنه يهيم بكل واد, لايكاد يستقر حتى تأتيه موجة من التطورات والمصطلحات التي تعصف به, من مكان لآخر, وبدقة أكثر كل ما يصدر في الغرب من نزعات اجتماعية وفكرية,تيارات أدبية وفكرية تجد صدى لها بين كتابنا ومفكرينا, الكل يهيم بها, ويعمل توظيفها كما يحلو, وهذا ما يقود إلى شتات فكري وإبداعي, والمحصلة عدم القدرة على الاستفادة من هذه الطاقات الفكرية الخلاقة التي تأتي كما لو انها ومضة.
أمام هذه التيارات التي تتحول إلى نثرات, طرح المفكر ضرورة أن تكون هناك جهة ما تعمل على الاستفادة من هذا السيل الفكري, وتحوله إلى طاقات خلاقة, تخضعه للنقد والغربلة, ومن ثم على الجميع إعادة صياغته, والعمل على أن يكون فعلا جادا وحقيقيا.
ترى ماذا لو أن المفكر كان اليوم على قيد الحياة, وهو يرى ليس التيارات الفكرية وما تحمله من طوفان غالبا يغرقنا, ماذا كان سيطرح ويفعل, من كل حدب وصوب ضخ فكري وإعلامي, يتربص بنا يضخ ما يحلو له عبر الفضاء الأزرق الذي يشتق كل ليلة ما يحلو له من تطبيقات تغرينا وتستلبنا, بل تعمل على اقتلاعنا من جذورنا, والنتيجة ما نراه اليوم من طوفان الفوضى بكل شيء.
صار اليوم من يفك حرفين إعلاميا, شاعرا, مفكرا, له من يتبناه ويدفع له, ومقولة: إن الجبان تساوى مع الفارس حين اخترع المسدس هي اليوم أكثر صدقا بواقعنا العربي, إذ نقول: صار العبقري والغبي بدرجة واحدة في معمعة الحداثة السائلة, أو المائعة كما يسميها عبد الوهاب المسيري, وبالتالي تداخل كل شيء, بكل ما يقبل أو لايقبل, ما نريد أن نصل إليه في هذه العجالة الإشارة إلى أن هذه الفوضى المعرفية, وغيرها, والعمل على خلق مسميات زائفة واستخدامها من قبل جهات ومؤسسات معينة, والدفع بها على أنها البديل ليس إلا عجزا, يظن من يقوم به أنه يخلق بدائل تعمل على التطبيل له, وهو بالحقيقة لايقترب من خط الحقيقة والقدرة على الفعل.
وربما يكون من المناسب هنا أيضا أن نذكر بالمثل القائل: نذهب بعيدا لنصبح أكثر قربا, وعلى مبدأ بدوي الجبل: وبعض الغيث إن فاض خربا, فالقرب الكثير يعمي الرؤية ويجعل من يقدم المشورة عبدا ولصيقا بمصالحه, وإرضاء من يعمل لديه, وبالتالي فالرؤية ليست غائمة فقط وإنما هو العماء.
معادلة الحل
ثمة حكاية في تراثنا العربي, ربما تصلح لأن تكون معادلة ينطلق منها عمل ما, يقال إن امرأة شاعرة دخلت على أحد الامراء, أو الخلفاء, وألقت أمامه شعرا, فقال لحاجبه: اقطع لسانها, فهمّ بذلك, لكنها صرخت به: الم تفهم ما يعنيه الأمر ؟
فقال: لا, قالت: يعني اكرمني من عطاياه, فهذا قطع اللسان, ترى ماذا لو حولنا المعادلة إلى التالي: اسمع رأيها وانظر بعينها, واقطع لسانها, فهل يعمل الكثيرون ممن يهمه الأمر على التقاط الكثير مما ينثر وينشر على المواقع والصفحات, ليس متابعة الترصد, بل التقاط الأفكار الفعالة البناءة التي تطرح, وهي كثيرة, كما أن للكثيرين من المسؤولين من (يبيض الصورة) هنا وهناك يجب أن يكون لهم من يرصد الحقيقة, ويقدم الطروحات الجديرة بالوصول إلى صانع القرار, وهذا أمر من الضرورة بمكان أن يكون, بل يجب أن يفعل بقوة, فليس كل ما يقال على الصفحات والمواقع هدرا وثرثرة, لا, ثمة رؤى وأفكار على غاية من الأهمية, وكم هو جميل أن يكون بكل مؤسسة قاعدة بيانات دقيقة, ترصد تحلل مسيرة العمل لكل موظف, ما ينجزه يضاف إليها, وحين تستدعي الحاجة لها, يستعان بها, ربما يخرجنا ذلك من مقولة هذا وذاك..
ومن الضرورة بمكان أن يرى بل ترى الجهات المعنية بعيون غير تلك التي تحيط بها, ما الذي يمنع ألا يركن مثلا وزير ما إلى مكتبه الاعلامي أو غيره ممن ينقلون لهم الصورة الوردية, بل لماذا لاتقام حلقات نقاش لعصف فكري بالكثير من القضايا, ولكن للاسف حين تتم (جوقة المطبلين أنفسهم) يقومون بالأمر ويظن من يعنيه الأمر أنه وصل المراد, والملاحظ في هذا التيه أن ثمة تغييبا للكثيرين ممن تعمل إداراتهم على إهمالهم, وهذه ملاحظة عامة بكل المشهد الوظيفي, تتكرر الوجوه نفسها,ولايعد جيل آخر, لاينظر إلا لمن ينظر إليه من زوايا تمت تزكيتها هنا وهناك, في هذا المشهد الغائم, تبدو الحاجة ملحة لمنظومة فكرية وثقافية جديدة, بكل المؤسسات الاجتماعية والفكرية والثقافية, ولكن ألا يعاد انتاجها بالادوات نفسها, إنما بعد ترو ونقاشات, حينذاك سيكون الحشد الذي يقف سدا منيعا بوجه الكثير من الجنون, سيكون فاعلا ومنيعا, وليس بالضرورة أنه صوتك, لا, هو صوت الوطن والمجتمع, صوت الدولة والنصر والانجاز.
d.hasan09@gmail.com
ديب علي حسن
التاريخ: الاثنين 21-1-2019
الرقم: 16890