الفن التشكيلي والقضايا النضاليّة

الملحق الثقافي..د. محمود شاهين: 

قبل اختراع الكاميرا، وولادة فن التصوير الضوئي، وتطور وسائل إنجازه وبثه، بالطريقة المذهلة التي حوّلت الأرض إلى قرية كونيّة صغيرة، لعب الفن التشكيلي، بضروبه وأنواعه المختلفة، أدواراً عديدة وهامة، إلى جانب دوره الأساسي، في رصد وتجسيد جماليات الإنسان والحياة، منها: التوثيق والتأريخ، لجوانب الحياة كافة: الثقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والحضاريّة، والعسكريّة، وساهم بعدة أشكال، في التحريض على الثورة والنضال، ضد أشكال الاضطهاد المختلفة، بحيث يمكن القول، إن القسم الأكبر من تاريخ البشريّة، بمجالاته المختلفة، وصل إلينا عبر الرسم والتصوير متعدد التقانات، والنحت، والخزف، إضافة إلى الشعر الذي يُعتبر واحداً من أسرة الفنون الجميلة التي تنتمي إليها الفنون التشكيليّة.

 

انكفاء فن وتقدم آخر
مع مزاحمة الصورة الضوئيّة، للفنون التشكيليّة، على مهامها ووظائفها القديمة، ووضعها أمام جدار مسدود، وجعلها تنكفئ لتحصر إنجازاتها في مرحلتها المعاصرة، في لغتها البصريّة، والعمل عليها، دون التركيز أو الاهتمام، بما تقدمه هذه اللغة من مضامين وأفكار، وصولاً إلى الاتجاهات التجريديّة والطليعيّة وما بعدها، التي أسقطت من اهتمامها، تقديم فكرة، أو حكاية، أو مضمون محدد، وإنما تركت للمتلقي، أن يقرأ في النص البصري، ما يريد، وبالشكل الذي يريد… مع هذا التحول الكبير، في وسائل الاتصالات البصريّة، تصدت الكاميرا بأشكالها وأجناسها المختلفة، لمهمة رصد وملاحقة وتوثيق الحدث السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والطبيعي، وتقديمه للناس، بسرعة مذهلة، ومن موقع الحدث مباشرة، بعد أن تحمّله الأبعاد والغايات والأهداف التي يريدها أصحاب وسائل الاتصال، من خلال المبررات ووجهات النظر، التي يقدموا فيها الحدث، ذلك لأن خواص هذه الوسائل، وقدرتها على تمثل الحدث ونقله إلى مفردات بصريّة مكثفة وواضحة ومؤثرة في البصر والبصيرة، جعلت منها الفن الأقدر على التأثير والفعل والغواية والتدجين لكافة شرائح المجتمع، لاسيّما بعد التطور المذهل الذي لحق بتقانات الصورة الضوئيّة التي صارت تنقل الحدث إلى المتلقي أينما تواجد: في البيت، أو المكتب، أو وسيلة النقل…إلخ.
لقد استفادت وسائط الإعلام المعاصرة، من الفنون الإبداعيّة التقليديّة، لاسيّما الفنون التشكيليّة والموسيقى، وتَوّجت بقوة، سلطة الصورة الثابتة والمتحركة، وهذه الأخيرة، أصبحت أكثر إبهاراً وتأثيراً وفعلاً، بل وتحولت إلى نوعٍ من الغواية التي تتلذذ باستقطاب المتلقي، وسكب ما تريد، في بصره وبصيرته، بل وتدجينه حتى!!

 

فردية الفنون التشكيليّة
مع كل هذه السطوة والسيطرة وقوة الفعل والتأثير، لسلطة الصورة الضوئيّة الثابتة والمتحركة، ظل للفن التشكيلي بشقيه الرئيسين: التصوير المتعدد التقانات اللونيّة والنحت، أي التعبير المسطح والتعبير بالحجم، دوراً فاعلاً ومؤثراً، في التوثيق والتأريخ للأحداث الهامة في تاريخ الأمم والشعوب، لاسيّما تلك المتعلقة بالنضال والثورة والدفاع عن الأوطان والقيم النبيلة والخيّرة ومحاربة أنواع وأجناس وأشكال الاضطهاد كافة. وفي الوقت الذي يفقد فيه المنجز البصري الضوئي (صورة ثابتة أو فيلم متحرك) وهجه مع تقادم الزمن، يحافظ المنجز البصري التشكيلي على وهجه وحضوره وتأثيره، نتيجة لجملة من المقومات والخصائص التي يتفرد بها العمل الإبداعي التقليدي (التشكيل، الموسيقى، الشعر، الرواية) ومنها: ارتباط هذا العمل باسم مبدعه، وخضوعه لعملية الاختزال والتكثيف، واعتماده على الواقع والمخيلة، في آنٍ معاً. بمعنى أنه لا يقدم الواقع كما هو، وإنما يُعيد صياغة هذا الواقع، وفق رؤية المبدع، وموقفه العميق والحاسم منه، وتالياً قراءته البعيدة لأسبابه والخلفيات المنظورة وغير المنظورة، الكامنة وراءه.
أي أن المبدع يأخذ خلاصة الحدث، وبأقل ما يمكن من مفردات وسيلة التعبير التي يشتغل عليها، ويعكسه في منجزه، بأبعاده كافة، وبرؤية ورؤى شخصيّة متفردة، تشير إليه دون غيره.

أعمال خالدة
ففي الفن التشكيلي، لا تزال الأعمال التي أنجزها فنانون مثل: الإسبانيان (غويا) و(بيكاسو) والمكسيكيان (ديوجو ريفيرا) و(وسيكيروش) والفلسطينيان (إسماعيل شموط) و(تمام الأكحل) ومجموعة كبيرة من الفنانين التشكيليين الصينيين والسوفييت وغيرهم الكثير، والمكرسة لقضايا نضاليّة وطنيّة وإنسانيّة نبيلة، لا تزال حاضرة ومتفاعلة ومهيمنة، على التاريخ المعاصر، وتستدعيها الذاكرة الجمعيّة، مع كل حدث مشابه للحدث الذي أرخت ووثقت له. فأعمال غويا عن الحرب والنضال، ماثلة بقوة، في تاريخ الفن التشكيلي العالمي المعاصر، وكذلك هي لوحة (بابلو بيكاسو) الشهيرة (الغورنيكا) التي أدان بها القصف النازي الهمجي الحاقد واللئيم، لبلدة (غورنيكا) الإسبانيّة الوادعة، وكذلك فعل (ريفيرا) و(اسبكيروش) اللذان وثقا للثورة المكسيكيّة، بأعمال فنيّة جداريّة هامة، وهو ما فعله الفنانان الفلسطينيان الزوجان (إسماعيل شموط) و(تمام الأكحل) تجاه قضية شعبهم وأمتهم، القضية الفلسطينيّة التي لا تزال نازفة منذ سبعين عاماً وحتى اللحظة.

 

فنان الجرح الفلسطيني
يُعتبر الفنان شموط الرائد الأول للفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، ومن أبرز وأهم الذين أرخوا بفنهم للجرح الفلسطيني منذ البدايات الأولى لهذا الجرح وحتى آخر مرة مارس فيها فعل الفن المقاوم (رحل صباح الثلاثاء 4/7/2006) الذي حكى من خلاله عن آمال وكفاح شعب لا زال في مهمة تحرير أرضه حتى الآن، ما جعله بحق فنان القضية الفلسطينية، وحارس الذاكرة الفلسطينية ومؤرخها بالفن التشكيلي. بل هو بامتياز، فنان الحزن الفلسطيني الذي وسم العقود الستة الأخيرة من تاريخ العرب المعاصر بسمته، ولا زال يحفر فيها عميقاً وبعيداً.
كان الفنان شموط يردد دوماً، أنه لا يعرف كيف يستطيع أن يضحك، وهو يعلم أن أناساً يموتون هناك في فلسطين كل يوم. فإذا حزن حزنت رسومه، إلا أن الحزن ليس كل شيء، ففي رسومه أيضاً، التمرد والثورة والفداء والموت. الأبطال في لوحاته عرفوا السعادة عن طريق الموت، لذا فإن بسمة تطوف على شفاههم، بسمة ساخرة، متحدية، عرفت الحكمة في أن الموت هو طريق الحياة.
كانت مواكبة الفنان شموط وزوجته الفنانة تمام الأكحل، للقضية الفلسطينية، مواكبة صادقة، نبيلة، عاشقة لأرضها وناسها وأمتها، وللغة التشكيلية التي اشتغلا عليها.
وهو ما جعل أعمالهما (على اختلاف حجومها وتقاناتها) تاريخاً موثقاً وصادقاً للنضال الفلسطيني.
كان الفن بالنسبة إلى الفنان شموط، نشاطاً إنسانياً مرتبطاً بالواقع بشكل مباشر أو غير مباشر، والواقع عنده ليس دائماً ذلك الواقع السطحي الذي نراه بالعين، بل إن الواقع هو ما تراه وتبصره البصيرة، هو ذلك الواقع الذي يعكس جوهر الحياة بحلوها ومرها.
لقد جسدت أعمال شموط ملحمة النضال الفلسطيني، بلغة فنية مختزلة، ثرة بالألوان، حاضرة الخط، حاشدة بالعناصر والمفردات والرموز والإشارات المستوحاة من الواقع والإرث الحضاري الفلسطيني الضارب في القدم..
واقعية شموط التعبيريّة، لا تشبه أبداً واقعية الغرب والشرق، لأنه ينسج من خلالها عباءته الخاصة، وموضوعاته الحميمية التي لا يمكن أن يحس بها سواه، وسوى الملتصقين بالجرح الفلسطيني النازف والحار، وألوانه المسحوبة من هذا الجرح، مفعمة بالأمل وحتمية الانتصار.
يقول شموط: (عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، لا أتذكر إلا الدماء، الدماء، الدماء في كل مكان، الدماء على الحجارة، على الشارع، على الثياب، على الأجساد، ولا أرى إلا الدموع والأسلاك الشائكة. ثم بعد ذلك، عن ماذا تنتظرون مني أن أعبّر؟).
مزج الفنان شموط في أعماله بين الرمز والواقع، مؤكداً على التمسك اللامحدود لشعبه بأرضه وإرثه الحضاري المنتهك والمسروق من قبل الصهاينة، وحق أطفال هذا الشعب، بمستقبل آمنٍ مستقر وكريم. عكست أعماله الملحمية كل هذه القيم والمضامين، عبر مشاهد متداخلة، غنية بتفاصيل البيئة الفلسطينية، رافلة بأحاسيس عالية ومؤكدة، بقدرة هذا الشعب الجبار، على النهوض من وسط الدمار، كطائر الفينيق، وبناء حياته الجديدة فوق أرضه المتجذر فيها كالشجر العتيق، رغم حجم التحدي الصهيوني، وقسوة الظروف المحيطة به محلياً وعربياً ودولياً.

التاريخ: الاثنين 21-1-2019

رقم العدد : 16890

آخر الأخبار
مرسوم باعتماد تسمية جامعة حمص بدلاً من جامعة البعث تعميم جديد بمنع الدراجات النارية في شوارع دمشق وتيرة الحرب تتصاعد.. واجتماع إيراني أوروبي في جنيف غداً توصيات المؤتمرات بين الأدراج المنسية  وصافرة الانطلاق أزمة المياه في السويداء.. واقع متأزّم وحلول قيد التنفيذ وزير التربية ومعاون وزير الداخلية يتفقدان مراكز طباعة الأسئلة الامتحانية  بانتظار مجلس الشعب القادم حجب المعلومة يوقع محافظة دمشق في فخ التوضيح عن مشروع تجميل قاسيون الشرع يتابع أعمال هيئة المفقودين ويؤكد التزام الدولة بالعدالة والإنصاف تفكيك الذاكرة الاستبدادية.. الحكومة السورية بخطوات ثابتة لإزالة إرث الأسد من الشوارع والمؤسسات جلسة حوارية شفافة بين وزير الإعلام وطلبة الكلية.. الوزير: نتطلع إلى إعلام مهني وموضوعي منظمات أممية: استهداف إسرائيل لمنتظري المساعدات في غزة جرائم حرب مرسوم بقبول استقالة دوه جي من وظيفة معاون وزير الإدارة المحلية قبوات تبحث توسيع نطاق برامج الحماية الاجتماعية  بحمص  شعراء الثورة ينشدون حرية الكلمة في درعا  الشراكة بين المالية والعدل نحو قضاء نزيه وشفاف مابين الإهمال والتعديات.. حدائق دمشق تنتظر استعادة نسيجها الحضاري مشاريع توءمة وتبادل أكاديمي على طاولة جامعة حلب والقنصلية التركية 330 منشأة سياحية بحلب خارج الخدمة  خطوات لتحفيز الاستثمار وتجاوز التحديات نظام الاستثمار الجديد في المدن الصناعية جاذب للمستثمرين