الملحق الثقافي.. نبوغ أسعد :
وأخيراً أجبت على هاتفي يا عصام، ثلاثة أشهر ولا أرى منك رسالة على المسنجر أو حتى على الهاتف، قل بصراحة هل تريد أن تتخلى عن حبي، إذا كنت قد نويت على ذلك، فلم يعد يعنيني الأمر، ربما أحببت فتاة في الغربة فأنستك نغم وحبها لك.
تنهد عصام بحسرة ويأس يعتملان قلبه المتعب وقال: هل أنهيت كلامك يا حبيبتي. أنت تعلمين بأنني فقدت والدتي إلى الأبد، رحلت دون أن أراها وتركت في قلبي غصة الرحيل، رحيلها فاجعة كبرى خمس سنوات وأكثر لم أرها إلا على الماسنجر كانت دائمة الحزن والقلق، وترجوني أن أعود من غربتي لحضن الوطن لتفرح بعرسنا، وترى أولادي، وهي تصارع الموت بصمت، تتألم وتبكي وتناجي الله في السر والعلن كي أعود.. آه يا نغم يرحلون ويتركون على شفاهنا عزف ناي ووجع، كما القمر قلبي خسفته الحدود ومزقني جواز سفر على جدار ناي.. اعذريني يا نغم كل هذا أجج مشاعر الحزن في صدري وها أنا نادم على كل لحظة لأنني لم أحقق لها حلماً واحداً.
قالت نغم : وماذا عني يا عصام. هل نسيت محبوبتك التي تنتظرك وأبت أن تتزوج من أي خاطب لأجل عينيك الجميلتين وحبك الذي اعتمل فؤادها، لقد أصبحت أنانياً لا تفكر إلا في نفسك، قال لها: لا يا راقية البوح الرقيق.. حضورك حج تعمد في محرابي الباكي والفجر يأخذني إلى موسيقاك فأطرب كعود استهواه لحن دندنتك ألف لحن، ولازالت أوتاري حبلى بألف نغم، فلا تقسي علي كما تقسو الحياة أنا أموت كل يوم ألف مرة، تسرب اليأس إلى نفسي فقتل فيها كل معالم الفرح والأمل والاستمرار، تائه لا أعرف مفارق الطرق ولا إلى أين أتجه. تحطمت أحلامي على مشارف الغربة وصار بين غربتي والوطن جسر ياسمين ونغم، التي حملتني بين شفاهها مسافة كون ولحن مجرات، قالت له: وماذا عن أحلامنا وآمالنا لقد باتت قاب قوسين وأنت أصبحت موسيقياً مشهوراً في بلاد الغربة وعالماً في الموسيقا العربية والغربية، وسوف نبني معهداً للموسيقا في بلادنا ستديره بخبرتك الطويلة وتشرف عليه وتتابع كل التفاصيل مع محبي الفن والموسيقا، المعهد الذي طالما حلمنا في تنفيذه والمبنى أصبح جاهزاً في المزة وأنا سوف أترك القرية وأدرس في الشام لأكون معك في كل خطوة، حتى تنتهي من خدمة العلم. لا تنس أن الوطن يحتاجك كما يحتاج لكل أبنائه، عد يا عصام وأنت مليء بالأمل والتفاؤل لا بالخيبة والخذلان. أنا أيضاً أشتاقك وأتوق للقياك أيها الموسيقي البارع، فروحي تحتاج لتغذيها بألحانك الشجية، أنت رائع وعزفك يسري في دمي كما يسري حبك فيه أحبك يا لحن روحي.
رد عصام، رغم مداهمة الألم المفاجئ: وأنا أحبك كما أحب كل ذرة في تراب الوطن وأعشقك كما وروده ووديانه وجباله ومساحاته التي تشبه مساحات عينيك الجميلتين، سأكون لك وللوطن الممتد في ساحات روحي العطشى وسوف أعزف له لحناً يشابه جمال روحك العذبة، أحبك يا نغم وسامحيني يا حبيبة. أسامحك على ماذا يا عصام، انقطع الخط فجأة ولم يكمل عصام حواره مع نغم.
غضبت نغم وانتابها شعور غريب لم تستطع تفسيره، عاودت الاتصال به دون فائدة قالت في نفسها: ما الذي قصده بكلامه، هل يريد أن يتركني، ربما أغوته الفتيات الغربيات بجمالهن، يا لسخافتي دائماً أصدقه فيما يقول ويأخذني بكلامه المعسول وصوته الذي يدغدغ مشاعري المشتعلة بنار الشوق والحرمان.
مضت بضعة أيام ونغم تتصل به دون فائدة وترسل له رسائل العتب الجارح وهي ترى ظهوره على الفيسبوك كل ليلة، وكان يرسل لها مقطوعات موسيقية حزينة من أروع ما أبدعته أنامله وبثتها روحه بلوحات لطيور مهاجرة وعيونها معلقة بأمل العودة والرجوع.
قالت في نفسها: ما هذه اللوحات التي يرسلها، هل يتعمد إثارة غضبي وزيادة الشك به؟ فأرسلت له: كنت أعلم أن الغربة سوف تأخذك مني، بعدما عزفت لحن حب فعشقتني، وبعد الخفق لغير الزهر نسيتني ليتك أنصفتني لكنك هجرتني، ولتعلم أن الكلمة تفقد معناها إذا تناثرت الحروف واللحن يفقد جماله إذا تشتتت الفكرة، سوف ألغي كل مشاريعي معك وأنساك، تأكد أنني سوف أنساك.
كانت ترسل له الرسائل وقلبها يدمع لكل حرف تقوله، فحبه يتغلغل في شرايينها ويتناثر على شفاف قلبها، ومع كل هذا عصام لا يرد، فأغلقت الفيس بوك وتركت للزمن فرصة عله يتصل.
في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي الحار عادت من المدرسة على عجل وجلست تتصفح على الإنترنت وما يدور في هذا العالم الافتراضي، وإذا بأحد أصدقاء عصام ينعي على صفحة عصام خبر وفاته إثر عمل جراحي لمرض عضال كان يعاني منه.
صرخت نغم بأعلى صوتها لا.. لا.. هذا غير معقول عصام لم يمت إنه حي. عادت إلى الصفحة والدموع تبلل وجنتيها وجسدها يرتجف، قالت: ربما هي مزحة منه كي يستجدي مشاعري، ليتها كذلك! لكن التعليقات بدأت تنهمر على الصفحة مشحونة بالحزن والتعازي المؤلمة.
لقد رحل عصام دون وداع، صامتاً كتلك الطيور المهاجرة التي حلقت بعيداً وعيونها تبكي ألماً وحرقة، رفرفت بجناحيها لتعزف لحن الوداع الأخير، رحل ولم يخبر حبيبته بحجم ألمه الجسدي والنفسي، رحل طائراً جريحاً يحلق في سماء الغربة ليعزف لحناً سماوياً ليس له مثيل.
التاريخ: الاثنين 21-1-2019
رقم العدد : 16890