سبق وأن صدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرارا في شهر كانون الاول يقضي بالانسحاب من سورية. بيد أن ما أثار فينا الاستغراب أن تعمل حكومة الولايات المتحدة حاليا على وضع خطة للإبقاء وبشكل دائم على قاعدة عسكرية لها في جنوب سورية، ذلك لأن لدينا القناعة الراسخة بأن النأي عن التدخل في الأحداث القائمة في هذا البلد يمثل بتقديرنا أحد أكثر القرارات التي أصدرها ترامب منطقية. لكنه يبدو بأن كبار القادة العسكريين ورجال الاستخبارات لم يرق لهم هذا التوجه كونهم غير مستعدين للتراجع عن نهجهم الدموي الذي دأبوا على استخدامه في الشرق الأوسط عبر سنين عديدة.
لقد أسفرت التدخلات الخارجية في سورية عن سقوط ضحايا ونزوح مواطنين وعلى الرغم من أن التدخل الأميركي لم يبدأ بشكل معلن إلا في عام 2014 لكنه بات معلوما بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد باشرت أعمال التدريب والتسليح السري للمسلحين في سورية منذ عام 2013، ومع ذلك لم يتحقق لها أية نتائج إيجابية من هذا التدخل وكل ما استطاعت تحقيقه هو المزيد من الدماء والموت والتشريد.
بأسلوب اتسم بالمراوغة والخداع، عمدت الاستخبارات الأميركية إلى إجراء تغيير في ادعاءاتها بـ «التدخل الإنساني» إلى أسلوب آخر يدعو إلى مواجهة إيران. وفي هذا السياق، صرح أحد القادة العسكريين الأميركيين بأن «الاحتفاظ بقاعدة على امتداد الحدود الشرقية لسورية مع الأردن يهدف إلى منع إيران من التواصل مع سورية عبر العراق، ومن ثم إلى لبنان حيث يوجد حزب الله» واستطرد في القول «إن وجود قاعدة عسكرية في التنف يساعد أميركا في الدفاع عن نفسها « وقد نوه بأن «قدوم القوات الإيرانية إلى تلك المنطقة يمثل، بشكل عام، تهديدا للولايات المتحدة وحلفائها». لم يكن التدخل الأميركي في سورية من الأمور الجديدة حيث حاولت هيلاري كلينتون في عام 2010 بحث أمر الوجود الإيراني في سورية، لكنها لم تجن سوى الفشل، ثم ما لبث أن جاء ما يسمى بـ «الربيع العربي» الذي وجدت الولايات المتحدة به ضالتها وجعلت منه نافذة للتدخل بهدف إقصاء إيران عن المنطقة.
إن ما بدا في مستهل الأحداث وكأنه أزمة داخلية محلية توضح انه صراع دولي استخدمت به الأدوات المحلية واستطاعت به الولايات المتحدة وإسرائيل التعاون مع كل من تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر لتشكيل محور ضد روسيا وإيران. وفي خضم هذا الصراع الدولي الذي أذكته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لدعم المناوئين للحكم في سورية ظهر تنظيم داعش الذي وسع من نفوذه ليطول مناطق في العراق محدثا تغييرا جذريا في استراتيجية أوباما الشرق اوسطية.
لقد بات من المؤكد بأن الولايات المتحدة قد قامت بتزويد المسلحين في سورية بالسلاح والمال بهدف إسقاط سورية، لكن المفارقة أن يعمد أولئك المسلحون إلى توظيف السلاح الأميركي ضد الأميركيين في العراق، الأمر الذي أوغر صدر القيادة الأميركية إبان عهد أوباما وجعلها تتصرف برعونة في كل من سورية والعراق دون مبرر للافراط في استخدام القوة. لكن ما ان أعلن ترامب عن قراره بمغادرة سورية في شهر كانون الأول الفائت حتى شهدنا القوات الجوية الأميركية تستخدم قدرتها الأمر الذي أسفر عنه مصرع الكثير من الأشخاص ونشر الدمار في المناطق المدنية.
يبدو أن المؤسسة العسكرية الأميركية لا تهدف إلى معالجة الأمور بل أن هدفها الرئيس هو احتواء إيران في المنطقة عبر التدخل في الشأن السوري. إذ تحاول المخابرات الأميركية تبرير وجودها في سورية بحجج واهية. فبعد أن كانت تدعي بأن هدفها يتمثل في مساعدة المسلحين لإسقاط الحكومة السورية، نجدها تغير حججها ومبرراتها بالادعاء أن بقاءها أمر ضروري لمحاربة الوجود الإيراني. تبرر الولايات المتحدة أن وجودها في بعض الدول يهدف إلى محاربة الإرهاب المتمثل بالجماعات المسلحة مستندة في ذلك إلى قانون استخدام القوة العسكرية الصادر في عام 2001. لكننا لا نرى في هذا القانون مجالا لتنفيذه على بقاء القوات الأميركية في سورية لكبح إيران، بل يتعذر تطبيقه في هذا المجال ذلك لأن القانون لا يسمح للولايات المتحدة بإنشاء قواعدة عسكرية لها في جميع أنحاء العالم أنى شاءت.
وإزاء ذلك فإن الإبقاء على قاعدة عسكرية في سورية عمل مخالف ومتهور، فضلا عن كونه يعتبر سابقة لتبرير التدخلات العسكرية في شتى أنحاء العالم. كما أن الفرصة متاحة أمام ترامب للجم أعمال الاستخبارات وعدم الاستسلام لها، وعليه أن يتمسك بما ذهب إليه من قرار بالانسحاب من سورية وإنهاء الطاقات المهدورة للبقاء في هذا البلد.
بقلم: كوري ماسيمينو- The American Conservative
التاريخ: الخميس 7-2-2019
الرقم: 16904