(1)
سأكتبُ، وَلَو لَمْ يَبْقَ سِوى إنسانٍ واحدٍ يَسْتَحِقُّ هذهِ الحياة، فهذا كافٍ لأكتبَ لها.. سأكتبُ، لا لأجلِ أنْ أغَرِّرَ بِهَا فَتُقْبِلَ عَلَيَّ، ولا لِأستَقْدِمَها فتبتَسِمَ لي.. ولا لأجْلِ أن أسْتدْعِيَ خَيْرَها، أو أستمطِرَ فَرَحَها، أو أستحضِرَ أملاً فيها، وبها قد يجيءُ وقد لا يجيء.. سأكتبُ، لا لأجلِ أنني أثقُ بها.. بجمالها.. بحضورها الأكيدِ الدَّائم، بل لأجلِ هذا المعنى الذي يَسْتَحِقُّها، ويُعطيها القيمَةَ والمعنى والحَيَاة: الحُبُّ.. سأكتبُ عن «حياة».. وعن حياتها في الحياة.. وهل «حياة» هذه فعلاً هي في حياةٍ حقيقةً؟ أستذكرُ جملةً طالما كرَّرها صديقٌ ذاتَ عامٍ «لِنَعِشْ فلسفةَ اللَّحظة»، كانَ وقتَها يُغَرِّرُ بطموحِ الأنثى بي، بإلحاحٍ غَبِيٍّ استثنائيٍّ، لعلَّ قامَةَ الحَقِّ والجمالِ والحياة بي تميلُ فأقعَ قُبَيلَ الأوان عن جسرِ الاستثناءِ فلا أعبُرُهُ.. ولا أكونُ «حياة» التي يجبُ أن تكونَ عليها الحياة.. لولا الحُبُّ لم تكن هنالكَ حياة.. الحُبُّ يمُدُّها بالنَّسغ، يُلَوِّنُها، يملَؤُها حيويَّةً، يُعطيها إكسيرَ الجمال الآسِرِ لتكونَ هي الحياة التي لاغنى عنها، ولابدَّ منها، ولو امتزجتْ بالسُّمِّ الزُّعاف، ولو خالطها الشَّرُّ المتوحِّشُ، ولو دخل عليها ألفُ معنىً من الخيانة والقهر والظُّلم والاضطهادِ والقسوة والحرمان، يبقى الحُبُّ ما إن تشرقْ شمسُهُ فيها حتى تنسى «الحياة» كلَّ هذا وتكون الحياة.. لها إذاً سأكتبُ.. لأنها الحُبُّ.. لن أكتبَ للحُبِّ، بل سأكتفي بما يدلُّ عليه في آثارهِ وأسمائه، في صفاته وآلائِهِ، في محاسِنِهِ ومآثِرِهِ.. هو المعنى المُتَجَسِّدُ والقانونُ الأسمى للحياة: الحُبُّ..
(2)
حينما تَخْذُلُكَ الرُّوحُ، وتخبُو عرائسُ النَّشوةِ في نفسِكَ، وتجفُوكَ شمسُ الحقيقة إلى بعضِ احتجابٍ، فابْتَغِ طُرُقَ الحكمة، ومسالِكَ التبصُّر، ودروب السُّلُوِّ، وشُعلَةَ التَّصَبُّر، وَ رِدْ كُؤُوسَ الارتواء من حُمَيَّا العطشِ إلى الوصل، وجانبْ المتعة إلى الدُّنيا، ترتَوِ نفسُك الظَّامئةُ، وتهدأ سكِينتُكَ المائرة، وتسكُنْ رُوحُكَ الحائرةُ، الهائمة، وَ اجْهَدْ في كبحِ جماحِها، وكظمِ غيظِها، وترويضِ ثائرتِها، مُسْلِساً للقَدَرِ قيادَها، وللأيامِ عنانَها، وللصبرِ رَكُوبَها، حتى تَطَّامَنَ إليك، وتُشْعِرَها بنصرِهَا عليك، وتركنَ لخضوعِكَ لجبروتها، وتسليمِكَ بحكمها، حتى إذا اطمأنَّت إلى زُخرُفِ الانتصار عليكَ، وانتشتْ بسُلافاتِ الفوزِ، انتزعْتَ منها حاجتك, واقتَطَفْتَ من ثِمَارِها العَلِيَّة رغابَك، واجتنَيْتَ الدُّرَّ من مكامنها الخَفيَّة، فَظَفِرْتَ بالظَّفَرِ المُشتَهَى.. وبكُنُوزٍ حَرَسَها اصطبارُك ورعَاهَا عناؤُك في حِرمَانِكَ منها.. يلومني النَّاس ويرمونني بالإهمال، وإنني لا أشكُّ في أنهم محقُّون في اللوم.. إنهم يأتون بقوانينهم و نُظُمهم ليقيِّدوني، ولكنَّني أنجو منهم دوماً، إذ إنني أنتظرُ الحبَّ فحسب لأهب نفسي بين يديه، لقد مضى زمن البيع والشِّراء.. وتمت صفقة الأعمال، إن الذين يطالبونني،عبثاً، قد انكفؤوا غاضبين، وها أنذي أنتظرُ الحُبَّ وحدَهُ لأهَبَ نفسي أخيراً بين يَدَيْه..
(3)
عند منبلج الفجر، تردَّدَ همسٌ: «سنبحرُ في زورق، وإنَّه ليس ثمة روحٌ في الكون تعلم عن رحلتنا التي لا نهاية لها، في هذا الخضم الذي لاشاطئ له، وعلى ابتسامة أمواجك المتيقظة أبداً للنشيد الخالد، ستمتلئ أغنياتي أنغاماً حرة كأمواجك الجذلى، حرة من أسر الكلام.. إنَّ المغنين في محرابك كُثُرٌ، وأغان تَتَرَتَّلُ كلَّ وقتٍ.. وأنا التي خشيتُ أن تكون الطريقُ المؤدِّيَةُ إليكَ طويلةً شاقَّة، وأن يكونَ الجهدُ المبذُولُ في الوصولِ إليكَ صعباً قاسياً، يا مولاي الذي بروحي..
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 8-2-2019
الرقم: 16905