لا أدري لماذا يبعث الشتاء لدي الحزن والكآبة، أهو حقا كما يصفه الرومانسيون فصل الصقيع النفسي، بعد أن تتعرى الكائنات في فصل الخريف؟ لا أحب البرد أبدا، مع أني عشت طفولة فيها من الثلج والصقيع ما يكفي أن يجعلني قابلا للعيش في المتجمد الشمالي، طفولة القرية والوديان والثلج الذي يمتد لأسابيع، والمطر المنهمر بغزارة، وفيضان الوديان، واقتلاع الأشجار ومطاردتها بمجرى الأنهار.
والأهم من هذا وذاك مدفأة حطب تتقد ليلا نهارا فقط (قرمة كبيرة، وبقايا الزيتون المهروس) وغير ذلك من مستلزمات كثيرة تعدها الأسرة بعفوية بعيدا عن الضجيج والصراخ، فلا أحد كان يملك كميرات تلفزة ليقول للعالم: أنا أن أعمل، صوروني، اكتبوا عني، كنا إذا قلمنا شجرة ما نجمع بقاياها ثم نكدسها، يوما وراء يوم، يعلو المكدس ويصبح زاد الشتاء موفورا، على مدفأة الحطب (تنكة ماء) تفور وتفور، وما نحتاجه من ماء ساخن يؤخذ منها، والبطاطا التي تدفن تحت الرماد تسلينا ريثما ينضج طعام الغداء، وعود من خشب نظيف يشك به تين يابس يلامس النار ليغدو أطيب من أي شيء آخر، كله موجود، ويمضي النهار ليحل ليل دافء آسر حين يجتمع رجال الحارة، أو الأقرباء وقرب الموقد حكايا وحكايا.
والأجمل والأكثر سرورا لنا حين نستيقظ صباحا، والثلج قد أغلق الطرقات، سد حتى الأبواب، ما أروعه من يوم، فلا مدرسة اليوم، ولا غداً، فرح جماعي بما تهب الطبيعة، ومع عراك اليوم وتقاذف كرات الثلج نعود ببهجة اليوم، ولكنه الشتاء القارس، حين افتقدت حكايا الكبار فيه، بحثت في مكتبة أخي، عثرت على قصص لسعيد حورانية (شتاء قاس آخر) وعدت أتلحف بعد نوم الجميع لأقرأ ذاك الشتاء، يغالبني النعاس، أكابره، أقاومه، أتذكر حكايات أمي عن اللصوص الذين لحقوا بجدي ذاتشتاء.
أعود اليوم إلى شتاءات كانت قاسية صعبة، باردة، لكنها جميلة ولا أدري لماذا أقول إني لا أحب الشتاء اليوم، هل ينعكس الحال على ما كان؟
كيف أجعل شتاءنا دافئا جميلا ؟ هل علي ألا أبحث عن خبز وغاز ومازوت، وألا أكون صباحا بالعمل، أقرأ وأكتب وأتابع، هل علي أن أقنع حفيدتي أن الشتاء ليس باردا، وأن من يعنيهم الأمر كانوا قد احتاطوا كثيرا لما نحن فيه الآن وقد وزعوا المحروقات التي ادخروها علينا؟
شتاء قاس آخر، ربما كان الراحل سعيد حورانية يعنيه اليوم، لا تلك الأيام، يالها من مفارقات: في القرن الحادي والعشرين ومع كل وسائل الدفء نحن ببرد الفعل والقلب، لا أحد ينكر أن ثمة ما يعمل ضدنا بلدا وشعبا وحكومة، ولكن الأكثر وضوحا أن برد الضمير موجود، أن سوء التخطيط موجود، أن العمل باللحظة الأخيرة لاينفع، لايؤتي ثماره، وإن أتى فستكون النتائج كما نرى …
هذا الشتاء حزين، مؤلم، لكنه جمر في القلب، حنون حين نتذكر من ارتقى لنكون ونبقى، يا من يصمون السمع والبصر ويعمهون : ما أبرد الضمير، تذكروا تلك الأم التي حملت صورة ابنها الشهيد من على الجدار حين هطل الثلج وقالت: لا أريد أن يبرد، لها: يا أمي، يا خالتي، هو ارتقى وعلا، وشمس الأحياء لا تدفء من ارتقوا هم بما عطروا به الأرض ندفأ….ما أبرد الضمير، وأبشع شتاءكم !!!
ديب علي حسن
التاريخ: الجمعة 8-2-2019
الرقم: 16905