الملحق الثقافي_د. محمود شاهين:
يرى الدكتور ثروت عكاشة في (الملهاة الإلهيّة) التي كتبها الإيطالي (دانتي أليغييريDante Alighieri) باللغة الإيطاليّة بداية القرن الرابع عشر، محاولة جريئة ورائدة في المجال الفكري والأدبي، وأعظم كتب العصور الوسطى في امتدادها وتأثيرها واتساع مداها، ذلك لأنها جمعت بين الفلسفة المدرسيّة لمفكري عصر العصور الوسطى وأفكار الفرنسيسكان، وثقافة اليونان والرومان القديمة، بحيث التقت فوق صفحاتها أسماء أرسطو وفيرجيل وأوفيد وشيشرون مع أسماء بيثيوس وتوما الأكويني وفرنسيس الأسيزي، الأمر الذي جعلها مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنيّة التشكيليّة والموسيقيّة والسينمائيّة والمسرحيّة والحاسوبيّة، وأظهرت فكر أبناء فلورنسا (أكثر المدن الإيطالية أهميةً وأكثرها نفوذاً على الصعيد الديني آنذاك). كما تميزت بأسلوبها السلس البسيط. غابت الملهاة عن الاهتمام ما يزيد عن ثلاثة قرون، ومع بداية القرن التاسع عشر، تصدرت الاهتمام في أوروبا التي كانت تعيش يومها مناخاً من الحرية والرومانسيّة، وقد تُرجمت إلى العديد من اللغات العالميّة، من بينها العربيّة.
________________________________________________________________________________________________________
يقول الشاعر والكاتب الفرنسي المعروف (فيكتور هوغو) إن دانتي يُعد من العقول الخصبة، وستبقى ذكراه خالدة في الفكر الأدبي، لأنه وضع الإله الخالق في جوهر كتاباته، والكون على هامشها.
عمل شعري
يقول الدكتور عكاشة إن ملهاة دانتي ليست عملاً واقعياً، رغم ما تمثله من رموز رياضيّة، ونزعات فلسفيّة مدرسيّة، ومواد علميّة كقوانين حركة الأجرام، وأفكار دينيّة ودنيويّة، وجدل فلسفي، ومعانٍ مجازيّة، كتمثيل فيرجيل للعقل، وبياتريس للإلهام، بل إن الملهاة في المرتبة الأولى عمل شعري خرج فيه دانتي على عادة الكتابة باللغة اللاتينيّة التي كانت مقصورة على عدد محدد من المتفقهين فيها، وهي لغة مغايرة للغة التي كان عامة الناس يتحدثون بها.
تناول دانتي في الملهاة الإلهيّة العديد من الموضوعات، وخلط بينها إلى حد الاضطراب واللبس، فجمع بين الحديث عن السياسة وعن الفردوس، وأفاض في الثرثرة الفجة إفاضته في الحديث العلمي، ووضع الجحيم إلى جانب الفردوس، والإيمان إلى جانب العقل، وأحداث الماضي مع أحداث الحاضر، وضم الوثنيّة إلى المسيحيّة، وعالم الإغريق والرومان إلى جانب العصور الوسطى، غير أن اللغة الشعريّة التي كتب بها الملهاة، تميزت بموسيقى خاصة، وبنظرة إلى الوجود شاملة، ونفاذ إلى الأعماق، وثراء الأخيلة والصور الشعريّة.
بنية الملهاة
يرى الدكتور ثروت عكاشة أن البعض أساء الحكم على ملهاة دانتي، خاصة الذين اكتفوا بقراءة القسم الأول منها، والذي يتحدث عن الجحيم، إذ لم يكن هدف دانتي التعبير عن نظرة العصور الوسطى إلى العالم الآخر، بل كان هدفه إلقاء الضوء على تطور حياتنا الدنيويّة منذ بدئها بالخطيئة الأصلية للبشر وما تبعها من تطور حتى تمثل الخير بالفردوس. وهذه الملهاة بشكل عام، رحلة فكريّة طويلة مترعة بالانفعالات والمشاعر التي لم تعرفها شعوب العصور الوسطى.
بدأ دانتي تصوير هذه الرحلة بتصوير أعماق الأرض، صاعداً عبر طبقات الجحيم، ممتطياً ظهر الشيطان إلى الجبل المطهر. ثم مضى صاعداً إلى الطبقات الميتافيزيقيّة السماويّة، وهذه الرحلة كما يراها دانتي هي رحلة الحضارة الإنسانيّة التي شقت طريقها عبر وثنيّة الإغريق خلال العصور الوسطى التي تنازعتها سلطتا الكنيسة المطلقة من جانب، والدولة الرومانيّة المقدسة، من جانب آخر.
أمضى دانتي ما يزيد على خمسة عشر عاماً في كتابة الملهاة التي أضيف إليها صفة (الإلهيّة) العام 1555 عند صدور طبعة البندقيّة، وهي مكونة من 14229 بيتاً موزعة على ثلاثة أجزاء. الأول يحمل عنوان (جهنم Inferno). والثاني (المطهر Purgatrio). والثالث (الفردوس Paradiso). وتمثل: الإدانة والجزاء والنعيم. يتألف كل جزء من ثلاث وثلاثين قصيدة، بعدد متساوٍ من الأبيات، مضيفاً أنشودة في المقدمة ليصل الرقم إلى مائة (رمز الكمال). بطل الملهاة هو دانتي نفسه، الرجل التائه عند مفترق الطرق، وسط غابة مظلمة، تفيض بالذنوب. هذا العالم الذي نسجته مخيلته، يضم الخير إلى جانب الشر الذي يراه نتيجة للعجرفة المفرطة في سلوك أول تمرد على حكمة الرب، ويرى دانتي أن مصدر الشر هو الإنسان ذاته: (إذا كان العالم الحالي منحرفاً وضالاً فابحثوا عن السبب في أنفسكم). ويتصور دانتي موقع (جهنم) بعيداً عن الإله الذي يشع نوراً. ويتصور المطهر جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة. وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض. والحقيقة الإلهية في نظر دانتي واحدة، وإن اختلفت الديانات، وهذه حقيقة أعلنها الأنبياء، وكان يؤمن بوجود إله واحد أبدي يُحرّك ولا يتحرك، وبأن الحقيقة هذه موجودة في الكتب السماويّة، ويمكن لأي إنسان أن يكتشفها إن أعمل عقله.
بين المعري ودانتي
تتقاطع غالبية الأفكار الواردة في (الملهاة الإلهيّة) لدانتي، مع (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري. بل لقد ذهب المستشرق والباحث الإسباني القس (ميغيل آسين بلاثيوس Miguel Asin Palacios) في رسالة الدكتوراه التي ناقشها تحت عنوان (علم الآخرة الإسلامي في الملهاة الإلهيّة) للقول: إن رؤى جهنم والفردوس في الملهاة مقتبسة من الإسراء والمعراج. وأثارت الرسالة تساؤلات حول مدى اطلاع دانتي على مؤلفات محي الدين بن عربي ورؤية المعري في (رسالة الغفران).
ذكر دانتي في الملهاة (ابن سينا) و(ابن رشد) إلى جانب (سقراط) و(أفلاطون) وغيرهم من كبار المفكرين، في إطار تلاقي الفكر الشرقي والغربي في البحث عن الحقيقة. هذا التلاقي الذي أكد غالبية الباحثين وجوده بجلاء، في (ملهاة دانتي) بشكل مباشر وغير مباشر، وبالتحديد تأثره البين بما ورد في كتاب أبي العلاء المعري (رسالة الغفران) التي ظهرت إلى الوجود قبل ظهور الملهاة بحوالي أربعة قرون.
(رسالة الغفران) رحلة خياليّة ممتعة في العالم الآخر، يطوف بها أبو العلاء بصاحبه الشاعر ابن القارح بين أرجاء العالم الآخر، حيث ذاقا معاً ألواناً بهيجة من السعادة والنعم، كان المعري قد افتقدها في الحياة الدنيا، نتيجة فقده لبصره، واعتزاله الناس والحياة العامة. فجنة أبي العلاء هي جنة السجين المكبوت والمحروم والضرير، رغم أن مجالسه حفلت بالأدباء والنقاد والمفكرين والشعراء. وكان علامة فكريّة بارزة في عصره وبنتاجه الشعري والفكري الذي تُرجم إلى العديد من لغات العالم. من أهم وأبرز هذا النتاج (رسالة الغفران) التي حوت على رحلة ممتعة وبهيجة في العالم الآخر، وعلى مسائل وقضايا أدبيّة وفكريّة تطول اللغة، والشعر، والعروض، والموسيقى، والصرف، والنحو، والرواية، حيث نصّب المعري نفسه قاضياً وزّع رضاه على عدد من الشعراء والأدباء، ونقمته على عدد آخر. أي أدخل الجحيم الذين لم يرض عنهم، والنعيم الذين ظفروا برضاه.
بنيت رسالة الغفران على ثلاثة محاور رئيسة هي: الحياة الآخرة (الجنة والنار)، والحديث عن الزندقة، والمسائل اللغويّة والأدبيّة. وبمقارنتها مع (الملهاة الإلهيّة) لدانتي نجد وجود قواسم مشتركة كثيرة بينهما، لكن الأمر لا يصل إلى حد التماثل. ففي حين وُصِفت رسالة الغفران بفنون الملحمة، أو المقامات، أو القصص (وهي في الحقيقة أقرب إلى فن الرسائل) نجد أن الملهاة الإلهية، هي بناء شعري بحت مصاغ من مائة نشيد. وفي حين يصطحب المعري صديقه الشاعر ابن القارح في رحلته إلى العالم الآخر، يقوم دانتي باصطحاب الشاعر فرجيل معه في هذه الرحلة التي استغرقت سبعة أيام. أما صورة الآخرة لدى المعري، فهي إسلاميّة تحتوي على الجنة والنار، ولدى دانتي مسيحيّة تتوزع إلى ثلاثة أقسام هي: الجحيم، المطهر، الفردوس. في القسم الأول،
يرمز إلى الخطيئة والعذاب والشباب. وفي الثانية إلى التوبة والتطهر. وفي الثالثة إلى الكهولة والطهارة والحرية والخلاص والنور الإلهي. وفي حين تطغى على رحلة المعري وصاحبه في العالم الآخر، السعادة، والمتعة، والنعيم، كحالة تعويض عما عاناه في دنياه (وهو كما قيل رهين المحبسين: العمى والبيت). أما رحلة دانتي وصاحبه، فتنتهي بالسعادة الإلهيّة، وذلك تعويضاَ عن معاناته من السياسة والسياسيين في عصره الذي أبدع في رسم الشخصيات فيه كالأمراء، والفقراء، والشياطين، والملائكة. كما أبدع في رسم الطبيعة. والحقيقة فقد أبدع المعري ودانتي في رسم صورة الواقع في عصرهما، الأمر الذي جعل من كتابيهما، مرآة صادقة لهذا الواقع، بكل أحداثه وأطيافه وألوانه وإرهاصاته، ساعدهما في ذلك، امتلاكهما للتفكير الحر، والخيال الخصب، والمعاناة المتعددة الأسباب والدوافع. لكنهما (في المقابل) يفترقان في عدة نواحٍ منها أن المعري كان مفكراً ناقداً وقادراً على رؤية الماضي والحاضر واستشفاف المستقبل. بينما كان دانتي صوفي النزعة ومدرسياً ولا ينتمي لعالم الفكر، بل إلى عالم التصوف المدرسي، وهو نتاج بيئة لاهوتيّة، وناطق بلسانها.
شغلت المقاربة بين عوالم المعري في (رسالة الغفران) ودانتي في (الملهاة الإلهيّة) العديد من الكتاب والباحثين والنقاد في الشرق والغرب، ولا زالت حتى اليوم، موضع دراسة وتحليل ومقارنة. بعض هذه الأبحاث أخذ طريقه إلى دفتي كتاب كما عند الباحث الإسباني (ميغيل آسين بلاثيوس) الذي وضع كتاباً بعنوان (علم الآخرة الإسلامي في الملهاة الإلهيّة) وعند الباحث المصري عبد القادر محمود الذي وضع كتاباً بعنوان (رحلة إلى الدار الآخرة مع المعري ودانتي).
التاريخ: الاثنين12-2-2019
رقم العدد : 16907