قَلِقٌ.. منشغِلٌ.. مهمومٌ.. كلَّما أتتِ الشِّتاء بكوانينها، دون أن تُحرَثَ أرضهُ، وأرضُ أجدادهِ وآبائه وأبنائه من بعده، دون أن تُبذَرَ بمواسمها التي ستأتي لهم بالقمح الذي يأكُلُون، والغلالِ التي يحصنون، ومشتقَّات تلك الغلال التي يغرونَها لأيام الشتاء القادمة، ولليالي السوداء التي تنتظرهم أيام البرد والشتاء القاسي القارس، خاصة وأن أعداد العائلة من الأحفاد وأحفاد الأحفاد آخذ بالازدياد لأضعاف.
اعتاد «الشيخُ» طوال سني حياته المنصرمة، ومنذ يفاعته، أن يهيئ زوادته والبذار ويأخذ عدة الحراثة ويمضي إلى أرض ورثها واستصلحها ونمَّاها وغرسها من كل صنف مفيد ولا سيَّما الزَّيتون، أمَّا وقد طعن في السِّنِّ، وتراجعت همَّتُهُ، وعجز بدنُهُ، فقد بات يكتفي بحرق أعصابه بالانتظار، واستحثاث الأيام القليلة المطر، ومراقبة حالة الجو والطقس، واقتناصها، ليقوم بتجميع أبنائه الموزعين على جغرافيا متباعدة ومتفاوتة في البلاد كلٌّ في عمله، ليـأتوا إلى الأرض فيزرعونها إن سنحت فرصة توقف الهطل ولو لأيام أو حتى بعض يوم.
مع العقود القليلة الماضية، حيث ارتفعت نسبة التعليم والوظائف الحكومية، ولاسيما الجيش، باتت تتضاءل وتتناقص نسبة المحاصيل المزروعة وغلالها نظراً لانشغال أصحابها بأعمالهم المتنامية، إلا أنَّ الشيخ بقي سنديانة عتيقة ضاربة الجذور في هذا التراب الراسخ.. ففي الصيف يزيل كل ماهو ضار عن شجيرات الزيتون، من كلأ وأشواك وأعشاب ضارَّة، ويحرقها، وفي الخريف يقوم بتسميدها، حتى إذا أتى موسم القطاف كان غلالاً وافرة، وموسماً وفيراً، يكفي العائلة ويزيد ما يدَّخرونه لسنة ماحلة قادمة، ويقوم بتقليمها في موسمها المعتاد، وإذا مابدأت بوادر هطل الشتاء التالي يفرح لكل سكب، ويبتهج لكل مزن ماطر، ضاحكاً كما غراسه وأرضه.
توالت السنون، و«الشيخ» يواصل دورة الحياة الأزلية، فيما أبناؤه يكبرون وينجحون ويسافرون ويدرسون ويحصلون شهاداتهم العليا، وينشؤون عائلاتهم الخاصة، فيما هو تكبر غلاله، وتتوافر محاصيله، وتتضاعف مواسمه، حتى داهمته الشيخوخة، وأخره العجز عن ملاحقة أرضه وشؤونها، لكنه ظل يجمع عائلته المترامية الأطراف والعدد بخيط محبة متين، و بحبل سري لاتنفصم عراه هي: الأرض.
وقف عصر ذلك اليوم، مراقباً بوادر السحب المنذرة بهطل قريب، بعد أن أعلن النفير لأولاده بانتهاء كانون وقرب حلول شباط ولما ترزع الأرض بالقمح بعد.. فتنادوا جميعاً واعدين بالوصول.. يومذاك، بقي راصداً ساعة الجيب العتيقة، وقرص الشمس الشاحب هذه الأيام من العام، والقرية تودع الابن العاشر من أبنائها شهيداً.. كان ينتظر وصول أبنائه كل من غربته ليحضروا مراسم تشييع جارهم، موقناً أن للزمن دورته، وللأوطان نسغاً يتجدد بأبنائها، وأنه حينما كان صبياً يتذكر مئات الرجال من أهل قريته والقرى المجاورة ممن قضوا في سبيل طرد المستعمر الفرنسي عن أرضهم.. ثم أتت دورة أخرى من الحياة ليعيشونها زرعاً وإعماراً وبناءً لأجل أبنائهم من بعدهم.
كان يأتي أيام إجازته القليلة، ليستصلح مايستطيع من أرضه، ويغرس زيتونها، الذي لايثمر إلا بعد سنوات طوالٍ، لكن كان لابد من البدء والعمل.. وها هو بعد هذا العمر يقطف وأبناؤه ثمار تعبه، فالمحصول تضاعف، والثمار وفيرة، والغلال كثيرة، لكن.. كانت المحنة التي تمر بها البلاد تزيده تمسكاً بالأرض، وتزيده إيماناً أنه مهما كان الثمن غالياً فلسوف يكون الغد أكثر إشراقاً.. ها هو يجمع أبناءه، وينطلقون للأرض، حيث الطقس مؤات لعملية الحراثة والبذار.. وإذ انتهت فترة الأيام الموعودة، التفت بنظرة طويلة فخورة إلى أرجاء شاسعة من أرضه، والتي باتت تختزن بذار غلال الموسم القادم في باطنها، وهو يبتسم لأمر ما قادمٍ كحلم ليس ببعيد.. ذلك اليوم وبعد أن أنهوا سهرتهم بجانب مدفأة الحنين والطيبة، وإذا بوابل من المطر ينسكب ليسقي أرضاً زرعت للتو محبة وخيرا ورضا..
ليندا إبراهيم
التاريخ: الجمعة 15-2-2019
رقم العدد : 16910